إعلان

حمو بيكا في السجن

د. جمال عبد الجواد

حمو بيكا في السجن

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 19 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

سلم المدعو محمد محمود نفسه لقسم شرطة الدخيلة تنفيذا لحكم قضائي بالحبس لمدة ثلاثة شهور. لا أحد يعرف محمد محمود، لكننا نعرف حمو بيكا، وهو اسم الشهرة الذي عرف به سائق التكتوك الشاب، الذي نصحه والده بأن يغني مهرجانات، فلعب معه الزهر، وتبدلت الأحوال. غناء حمو بيكا وغناؤه لا يعجب البعض، فلاحقوه بتهمة الغناء بدون تصريح، فكان مصيره السجن.

كان بيكا قد نظم حفلا في منطقة العجمي القريبة من مسقط رأسه في الدخيلة، لكن الشرطة ألغت الحفل، ولا نعرف بالضبط ما إذا كانت الشرطة قد قامت بذلك من تلقاء نفسها، وكما تقوم بواجبها بشكل روتيني طوال الوقت، أم أن تدخل الشرطة جاء استجابة لشكوى قدمتها نقابة المهن الموسيقية برئاسة النقيب أمير الطرب العربي هاني شاكر؟! فحمو بيكا ليس مصرحًا له بالغناء؛ لأنه ليس مسجلاً في النقابة، التي رفضت الاعتراف به مغنيا؛ وبالتالي فإنه غير مسموح لحمو بيكا استصدار ما يلزم من تصاريح للغناء، رغم أن له معجبين يزيدون على بعض المطربين أعضاء نقابة المهن الموسيقية. المهم أنه قد تم فض الحفل قبل أن يبدأ، وتم تقديم بيكا للمحاكمة، وأصدرت محكمة أول درجة حكما بسجن بيكا ثلاثة شهور، وهو الحكم الذي أكدته المحكمة الأعلى درجة، فسلم بيكا نفسه للسلطات، وهو الآن يقضي عقوبة السجن، وأبشركم بأن هذه ستكون نهاية موسيقى وأغاني المهرجانات في مصر، وأن آذان الجمهور المصري لن يمسها بعد الآن سوى موسيقى الاستديوهات الراقية، وأن نقابة الموسيقيين تكون بهذا قد أنقذت ذوق الشعب وثقافته وقيمه الأخلاقية.

هناك، مع هذا، مشكلة بسيطة تتعلق بسمعة مصر؛ فقد أصابتنا الحيرة فيما إذا كانت سمعة بلدنا العزيز تتضرر عندما تخرج منها موسيقى المهرجانات ويظهر فيها مغنٍ اسمه حمو بيكا، أم أنها تتضرر أكثر عندما تنشر صحف عالمية مقالات عن بلد يسجن فيه الناس إذا غنوا بدون تصريح!

الأصل في الموسيقى والغناء أنها مسألة ذوق، وقد كان هناك زمن لم يكن فيه الناس يحتاجون لأي نوع من التصاريح للغناء، فأم كلثوم أو محمد عبدالوهاب لم يحصلا على تصريح من أي أحد قبل أن يبدآ الغناء؛ وإلى جانبهما كان هناك كل ألوان الطيف الغنائي، بما في ذلك مهازل غنائية يشمخ إلى جانبها حمو بيكا بأدبه وأخلاقه العالية، وحسه الفني المرهف.

أول تنظيم للغناء حدث مع إغلاق الإذاعات الأهلية، وإنشاء الإذاعة الحكومية في عام 1934، فعندها كان لا بد من اختيار ألوان الموسيقى والغناء التي سوف يتم بثها عبر الأثير. لم يكن الأمر إذًا يتعلق بمنع أحد من الغناء، فلجنة الاستماع لم يكن لها هذه الصلاحية، ولم يفكر أحد وقتها أنه يمكن منع أي أحد من الغناء؛ فكل ما في الأمر أن لجنة الاستماع كانت تتصرف كلجنة المشتريات التي تقرر ما هي ألوان الموسيقى التي ستشتريها الإذاعة من أصحابها، لكي تملأ بها الساعات على موجات الأثير، وفيما عدا ذلك فإن الناس لهم الغناء بأي طريقة يحبون وبكل حرية.

ربما احتاج الأمر بعضًا من التنظيم، لكن علينا تجنب المبالغة في محاولة التحكم في أذواق الناس، فهذه مهمة مستحيلة في عصر السماوات المفتوحة والنتفليكس والإنترنت والتواصل الاجتماعي. الترويج لبعض القيم الضارة يجب أن يكون مقيدا، ولكن علينا أن نقتصد جدا في تعريف القيم الضارة، فطالما أن الأمر لا يتعلق بالدعوة للعنف والكراهية والمخدرات والمجون الصريح، فإن الإباحة يجب أن تكون هي القاعدة. أما نقاباتنا المهنية فمن غير اللائق أن تتحول إلى أداة للتضييق على ممارسة المهنة، بدلا من أن تكون منصة لتطويرها.

إعلان