إعلان

تحولات عربية لافتة

د. عمار علي حسن

تحولات عربية لافتة

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 17 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

ما يجري في ليبيا والسودان والجزائر ليس بالأمر الهين، إذ ينطوي على مغزى لا يمكن نكرانه، ومعنى ليس بوسع أحد أن يتجاهله، ينشأ في ركاب رغبة الشعوب العربية في إصلاح أحوالها، واستفادتها من تجارب الانتفاضات والاحتجاجات في بلدان أخرى، ما يعني أن هناك مراكمة على الخبرة، بطريقة تؤدي إلى تفادي المزالق، واستلهام التجارب الناجحة. وكذلك في معية غريزة الدول الساعية إلى التئام شملها، وجمع أشتاتها.

ويعمل هذان العنصران على التوازي دون هوادة، ويشكلان معا حكمة سابغة تلقي ما بها من عبر على الأسماع وأمام الأبصار، بأن الشعوب والجيوش يدوران معا في حياة سياسية لم تتطور بالقدر الكافي لصياغة مدنية خالصة، وقد يأخذ هذا بعض الوقت، وكأنها فترة انتقالية ضمنية أو غير معلنة وغير منصوص عليها في الدساتير والقوانين، لتنتقل أغلب الدول العربية إلى فضاء سياسي جديد.

في ليبيا يواجه الجيش الوطني الذي يقوده خليفة حفتر، وبموافقة من البرلمان، ميليشيات إرهابية تتعاون مع الحكومة المعترف بها دوليا، لاستعادة بسط النفوذ على كافة التراب الوطني الليبي، وسط عودة الجدال بين "المدني" و"العسكري" وكأن الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية تشكل نظام حكم مدنيًا حقيقيًا. وبذا تتحول "المدنية" إلى لافتة يرفعها من لا يؤمن بها، ويتحور الحفاظ على "الدولة" إلى وسيلة لتبرير كل ما قد يأتي في ظلها من تدابير يمكن أن تجهز على حلم الذين اعتقدوا أن رحيل القذافي سيؤدي إلى بناء حكم عصري مدني يضمد جراح الليبيين، ويعوضهم عن سنوات القهر والقمع والاغتراب.

وفي الجزائر لا يريد الشعب والجيش معا العودة إلى العشرية الدموية، لكن هناك طرفا في الشعب يريد أن يدير هذه الانتفاضة لصالحه، مثلما جرى في تجربة ثورة يناير المصرية، وهو الجماعات الدينية بمختلف ألوانها. على الجانب الآخر هناك طرف في الجيش لا يريد أن يفقد الإمساك بجوهر السلطة في يده. وبين الإرادتين سيحسم الجزائريون الأمر، بعد استيفاء الانتقال الشكلي للسلطة، والدخول في مسار تحول حقيقي، إما إلى إعادة تجديد شرعية من يحكمون بالفعل، أو محاولة الذهاب إلى شرعية أخرى، ولو بالتدريج.

وفي السودان، يراعي أغلب المتظاهرين أنهم في بلد انقسم، وخرجت من ضلعه دولة هي "جنوب السودان"، وأن فيه أقاليم مرشحة للسير في هذا الطريق إن انهارت قبضة الدولة المركزية وطال أمد الفوضى. ولهذا، فهم، في قوة فورتهم الغاضبة من السلطة، يعتصمون في مقر قيادة الجيش، ويطلبون منه الحماية، حالمين بأن يخرج من صلبه رجل مثل سوار الذهب الذي أطاح بالنميري في انقلاب عسكري، لكنه لم يلبث أن ترك السلطة للمدنيين، أداروها لثلاث سنوات فقط، ثم اقتنص الجيش الحكم بالتحالف مع جماعة "الإخوان" جناح حسن الترابي.

في كل هذه التجارب تحضر الرغبة لدى أغلب المحتجين في "مدنية الحكم" بالطبع، لكن هؤلاء ليس بوسعهم أن يتناسوا ضرورة الحفاظ على تماسك الدول، حتى لو لم يكن من يثورون عليه معنيا بهذا على نحو أخلاقي مسؤول. وهنا تحضر التجارب القاسية في سوريا واليمن وليبيا أمام الأذهان. ورغم أن تصدع الدولة في الحالات الثلاث لم يكن بسبب غضب الشعب لانتهاك حريته وكرامته وإنما لتشبث الحكام بكراسيهم، فإن القوى الفاعلة الواعية بين المتظاهرين التي تتحلي بقدر من الوطنية والالتزام الاجتماعي تريد تفادي الانزلاق إلى سيناريوهات كارثية، بما يجعل التغيير يتم بمبضع جراح لا بمعول فلاح.

في كل هذا التجارب، تبقى الحكمة الخالصة، هي أن السلطة الذكية هي التي تترك المستقبل يولد على كف الحاضر دون عناء، أما من يعاند التاريخ فمآله الفشل؛ لأن ما هو قادم ليس بوسع أحد أن يمنعه، عنوة أو بالخداع والتحايل، لكن يمكنه إدارته في وعي بما يصون العباد والبلاد. وفي ركاب هذا تتحقق مصلحة السلطة نفسها، في معناها ومبناها ورجالها.

إعلان