إعلان

كلنا محمود عبدالظاهر

د. أحمد عمر

كلنا محمود عبدالظاهر

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 10 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

للأبطال الروائيين حياة خاصة بهم، وملامح لا يشبهون فيها أحدًا غيرهم، وهو ما يصنع لهم أصالتهم وتفردهم وحضورهم المستمر في وعينا وحياتنا. وقليلة هي الشخصيات الروائية التي يمتد حضورها الإنساني خارج أفق النص الروائي، لتصبح شخصيات من لحم ودم، تتعايش معها، وتُحس بوجودها، تتكلم معها وتحاورها، تحزن لحزنها، تفرح لفرحها، تتفهم وتتقبل ضعفها الإنساني، ولحظات جنونها وجموحها وتمردها على الأرض والسماء.

وهؤلاء الأبطال المميزون يأتي تأثيرهم في القراء والمتلقين وانفعالهم بهم من مصدرين أساسيين:

المصدر الأول- أن تشبه تجربتهم الحياتية تجربة أبناء عصرهم أو اللاحقين عليهم من أجيال قادمة.
والمصدر الثاني- أن يشبه حلمهم المُجهض أو المُتحقق حلم أبناء عصرهم أو أبناء العصر اللاحق لهم.

وهنا تكمن- في ظني- علة انفعالنا الشديد بتجربة حياة وتحولات ومصير "محمود عبدالظاهر" بطل رواية "واحة الغروب" للأستاذ بهاء طاهر، حتى كدنا نصرح ونقول: "كلنا محمود عبدالظاهر".
هو رجل وطني حر، عاشق لأرضه وبلاده، وبطل من أنصار قضية عادلة خذلها أنصارها وخانوها، وهي قضية الثورة على الظلم واستقلال الأرض والإرادة والتغيير والإصلاح حتى تصبح مصر للمصريين، ويصبح على أرضها ما يستحق الحياة لأبنائها.

وهنا تكمن علة أزمة محمود عبدالظاهر، المتمثلة في هزيمة الحق وانتصار الباطل، وفي انكسار الأحرار والأبطال، وصعود نجم الخونة والعملاء واللاعبين على كل الحبال.
وهي الأزمة الإنسانية والوطنية التي جعلته في النهاية رجلًا مثقلًا بهموم الهزيمة والفشل في الحياة العاطفية والمهنية والسياسية، رجلًا منكسر الروح، لا يكف عن الحوار مع ذاته، وجلدها بقسوة، حتى يصل في النهاية لقناعة "أن الغلط يكمن في صميم الحياة ذاتها"، فنجده يقول: "ما العمل يا شيخ وكل الحكمة لا تفيد في أن تُهدي الراحة إلى القلب؟! ربما الغلط في الحياة بالفعل".

وعند تلك اللحظة يُدرك محمود عبدالظاهر أن الموت بتجلياته المختلفة، الموت العاصف الذي يشبه الطوفان، ربما يكون السبيل الوحيد للنجاة، وإعادة تجديد الحياة، وبخاصة بعد أن ذهب للعمل مأمورًا لواحة سيوة- بعد هزيمة الثورة العرابية وإعادته للعمل بعد انتهاء التحقيق معه- وهناك تعمق بداخله الإحساس بتناقضات الحياة، لما شاهده من تناقضات إنسانية واجتماعية في تلك الواحة البعيدة التي كان من المفترض أن تكون واحدة للسكينة والطمأنينة.
ولهذا يُقرر تفجير المعبد المقدس بواحة سيوة، وهو بداخله، لتنتهي حياته، بعد تدمير أهم عناصر المكان، وهو المعبد الذي وجد فيه رمزاً لماضٍ وثقافة لا بد لهما من التدمير والزوال؛ لأنهم يعيقان تجديد وتحرير وازدهار حياة البشر.
وبالموت تتوج رحلة محمود عبدالظاهر المُضنية، ويحصل على السكينة البعيدة المنال في الحياة؛ فنراه على أعتاب الموت يقول: "لم يكن هناك ألم.. وتوهج فجأة نور داخلي، نعم، الآن يمكن أن أرى كل شيء، أن أفهم ما فاتني في الدنيا أن أعرفه"!
ورغم تعاطفنا الإنساني مع نهاية محمود عبدالظاهر وتماهي شخصيته وأحلامه مع شخصيتنا وأحلامنا في جوانب كثير، فإن هذا لا يمنعنا من نقد خياره التدميري الأخير؛ لأن الهروب للإمام بتدمير الماضي وعناصر المكان لن ينتج إلا مزيدًا من الدمار، وعدم الكمال في الحاضر والمستقبل؛ ففي كل سياق إنساني وطني وحضاري يتحتم نقد الماضي، وهدم وترك ما هو جدير بالهدم والترك، وإعادة البناء على ما هو جدير بالبقاء.
وأزمة محمود عبدالظاهر تكمن في كونه قد خلط بين أزمته الشخصية المُتمثلة في إفلاس والده، وهروب جاريته الحبيبة "نعمة" التي كانت الأنثى بكل معنى الكلمة في حياته، وأعطته الحب والحنان ومتعة الجسد، التي ظل يبحث عنها بعد ذلك في كل النساء اللاتي عرفهن، ولم تستطع إحداهن أن تعوضه عنها، وأزمة وطنه المتمثلة في هزيمة ثورة عرابي بسبب الخيانة واحتلال الإنجليز لمصر، فلم يستطع أن يفصل بين هذا وذاك.
كما تكمن أزمته أيضًا في أنه لم يستطع أن يُقاوم الانهيار العصبي أمام هذا الواقع القاس، وأن يُحصن خطوط دفاعه النفسية والفكرية، ليسمو على هزائمه الشخصية ويسعى من أجل تجاوز هزيمة الوطن؛ فدمر بخياره الأخير ذاته، ودمر الواحة وماضيها، ولم يخدم الوطن.

إعلان