إعلان

لميس الحديدي تكتب: صاحبة الجلالة.. وأنا

لميس الحديدي

لميس الحديدي تكتب: صاحبة الجلالة.. وأنا

لميس الحديدي
11:41 ص الإثنين 04 فبراير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

مقدمة لا بد منها:

قبل أن أبدأ أولى كلماتي يجب أن أشكر زملائي في موقع مصراوي لاستضافة قلمي وسط جمع من الصحفيين وكتاب الرأي الذين أكن لهم الكثير من الاحترام.

و أخص بالشكر زميل الطريق مجدى الجلاد الذى رافقني لحظات السعادة والقلق والكفاح على مدار سنوات طويلة، وكان دومًا أمينًا على مقالاتي بـ«المصرى اليوم» حين شغل رئاسة تحريرها في أزهى عصورها الصحفية.

ونبدأ المشوار من جديد:

أستسمح القارئ العزيز لأبدأ كتاباتي بمقال شخصي جدا (عود بعده للشأن العام)، مقال اعتذاري للقلم الذي شغلت عنه ولم يهجرني، لكن عذري أنني لم أتخل يوما عن مهنتي التي تعلمتها وعشقتها ونذرت حياتي العملية لتحقيقها بالكتابة أو على الشاشة.

في كل الأحوال، وتحت كل الأضواء كنت دائما صحفية. في بطاقة الرقم القومي المهنة: صحفية. في جواز السفر المهنة: صحفية. لم أغيرها أبدا لوصف آخر. فقد كنت ومازلت أعتبرها من أشرف وأسمى المهن، رغم التعثر والسهام الموجهة لها ولمزاوليها، وكم كان فخرى وسعادتي بقيدي في نقابة الصحفيين المصرية. يومها شعرت أنني على أعتاب تحقيق الحلم الكبير: بلاط صاحبة الجلالة. ثلاثون عاما وأكثر من الدراسة والعمل والجهد والمثابرة والمنافسة الشرسة، لا أذكر أنني توقفت خلالها يوما عن التعلم، أو أن حوارا جاءني بمحض الصدفة. فكلمة الحظ لم تكن أبدا صديقتي، إلا في أساتذتي الذين عاصرتهم وعلموني.

هل كان ذلك الحلم الأول؟ في الواقع لا. فالعائلة صوتها صدح في الإذاعة المصرية منذ بداياتها من الرائد عبد الحميد الحديدي أول رئيس للإذاعة المصرية، إلى عمى حسنى الحديدي كبير المذيعين في الستينيات، وبعدهما هالة الحديدي والراحل فاروق شوشة. الحلم إذن كان الإذاعة، لكنه تغير عند التحاقي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكتابتي لأول موضوع صحفي في جريدة الجامعة «القافلة» التي ترأست تحريرها فيما بعد، هناك اكتشفت عشقي الحقيقي: الصحافة. ربما كان تمكني من اللغة العربية عاملا مساندا، فوالدي د. علي الحديدي كان أستاذا للأدب العربي الحديث في الجامعات المصرية والعربية، وعضوا بمجمع اللغة العربية، بمعنى أنه لم يكن مسموحا لنا أن نخطئ في الإعراب أو أن تكون مخارج ألفاظنا غير واضحة، وكنا نقرأ الأدب والشعر ونختلط بأصحابهما في بيتنا كما نقرأ الصحافة اليومية ونقابل أهلنا. أحببت العربية، مع إتقاني لغات أخرى، لكنني عشقت مهنة البحث عن الحقيقة.

لا أذكر جيدا أول درس تعلمته في علم الصحافة فقد حظيت بعدد من الأساتذة المصريين والأجانب ذوي الشأن حينها. لكنني أذكر وبوضوح وجه أستاذي الصحفي الكبير جلال الدين الحمامصي حين سلمته مقالي الأول (كان يدرسنا كتابه المقال)، قرأه وعيوني مثبتة على ملامح وجهه الصارم ونظر لي دون ابتسام قائلا: ستكونين صحفية ذات شأن، احرصي أن يعرف القارئ الموضوع ومقصدك من أول فقرة، لن يصبر عليك القارئ كثيرا. وكان ذلك دستوري من وقتها.

درس ثانٍ قدمه لي أستاذي لويس جريس - كان رئيس تحرير مجله صباح الخير في منتصف الثمانينيات بجانب عمله في الجامعة الأمريكية- فقد سمح لي- وأنا طالبة- أن أنشر بعض الترجمات على صفحات المجلة الاجتماعية الأشهر. وأتذكر جيدا فرحتي باسمي مكتوبا في نهاية أول موضوعاتي الصحفية وكأنه من ذهب. منه تعلمت الدقة والحرص، فلا تأخذك الصياغة بعيدا عنهما، لكنه أيضا علمني أن اكتشف نفسي وألا أكف عن المحاولة فربما نجحت الفتاة الصغيرة فيما لم ينجح به الكبار. لويس جريس كان يراهن على المواهب يكتشفها ويفتح لها الطريق، فكلف الفنان جمال هلال برسم بورتريه لي كان غلاف مجلة صباح الخير، في أواخر الثمانينيات، وكتب أسفل منه: انتظروا هذه الصحفية.

درس ثالث تعلمته من أستاذي مفيد فوزي، الذي رأس تحرير صباح الخير بعد لويس جريس، كنت قد تخرجت في الجامعة وأجريت في واشنطن أول حوار مع د. إبراهيم شحاته نائب رئيس البنك الدولي أوائل التسعينيات حول أولى موجات الإصلاح الاقتصادي المصري.

أخد مفيد فوزي الحوار من الصحفية المبتدئة، وإذا به على غلاف المجلة تحت عنوان: «الدواء المر». لم يكن ذلك عنواني، لكنه تعبير استخدمه د. شحاتة في الحديث والتقطه مفيد فوزي، وكانت المرة الأولى التي يطلق فيها هذا المصطلح. من مفيد تتعلم الكثير في فن الحوار، ومنه تعلمت كيف تكتب عنوانًا حقيقيًا وجاذبًا في نفس الوقت، معايير الجاذبية لا تنفي الدقة.

لم تكن لحظة حصولي على جائزة مصطفي وعلى أمين والتي تسلمتها من الراحل مصطفي أمين لحظة عابرة. فكأنه كان يسلم الراية لجيل جديد عليه أن يحافظ على مهنته وسط أمواج سياسية واقتصادية عاتية. لذا اخترت أن تكون بدايتي الصحفية أجنبية، لتكون الممارسة بعيدة عن التلون ومحاولات الاستقطاب، في شبكة إن بي سي الأمريكية، ثم ثلاث سنوات في جريدة النيويورك تايمز الأمريكية تعلمت فيها من فنون الصحافة الكثير. فلا يمكن أن أنسى أول مؤتمر صحفي شاركت به، وكان لوزير الخارجية حينها د. عصمت عبد المجيد، حينها تلعثمت في سؤالي فالتقط زملاء لي الأسئلة، عرفت يومها أن أحدا لن يفسح لك الطريق وأنها مهنة لا تعرف اللعثمة أو الارتباك. وكم كانت سلالم قصر الرئاسة بالاتحادية شاهدة على جيل كامل (ياسر رزق، رندة أبوالعزم، نيهال سعد وغيرهم كثر) حيث كنا نقضي الساعات الطوال بحثا عن خبر أو في انتظار اجتماع مهم، يخرج بعده د. أسامة الباز أو عمرو موسى وزيرا للخارجية أو غيرهم من المسؤولين وقتها لننهكهم بالأسئلة، لا يجب أن تنشر جميعا لكننا كنا دائما نتنافس من سيسأل السؤال الأصعب أولا، من سيحصل على التصريح الحصري. علمتني الصحافة الأجنبية الكثير، لكن الأهم وهو ما أدركته لاحقا اكتشافي أن الحياد مستحيل: فزاويه الخبر اختيار، العنوان اختيار، الصورة اختيار، وحتى المصدر اختيار. الممكن بل المحتم هو تحرى الدقة والموضوعية بمعنى عرض مختلف وجهات النظر. وهذا هو الفرق بين صحافتنا وصحافتهم. فنحن نرى الموضوعية وجهة نظر واحدة.

قد يظن كثيرون أن تميزي في الصحافة الاقتصادية هو تخصص بالدراسة، والحقيقة أنه تخصص بالممارسة والتعلم والقراءة. فقد تخصصت أكاديميًا في الإعلام والصحافة، وكانت العلوم السياسية تخصصًا فرعيا، وعندما قررت الاتجاه للتليفزيون حصلت على الماجستير في الصحافة التليفزيونية.

أما الاقتصاد، فقد كان البحر الذي ألقى بي فيه أستاذي عماد الدين أديب عندما انتزعني من الصحافة الأجنبية لنؤسس معا ومعنا كوكبة من كبار الصحفيين (د. هالة سرحان، صلاح حافظ، صلاح هلال، محمود المراغي، عمرو أديب) مجلة كل الناس وجريدة العالم اليوم، أول صحيفة اقتصادية يومية في العالم العربي.

أذكر جيدًا لقائي معه في فندق هيلتون النيل: لن تكوني صحفية عن حق إلا بالعربية، لدينا مشروع عظيم هو الأول في المنطقة العربية. وبالفعل تركت الصحافة الأجنبية والمرتب الدولاري الضخم لأمسك بحلمي الأصيل. لم يلق عماد أديب بي في اليمّ بلا مجداف، فقد أرسلني إلى رويترز لدراسة الكتابة الاقتصادية، ثم إلى الفاينانشيال تايمز وبلومبرج والوول ستريت جورنال في نيويورك لأعقد أول اتفاقية نشر بين صحيفة عربية والجريدة الاقتصادية الأشهر. وتابعت أنا رحله التعلم في جامعة تافتس ببوسطن لمزيد من دراسة العلوم السياسية.

طريق طويل تدرجت فيه حتى وصلت لرئاسة التحرير وبعدها الشاشة وتلك قصه أخرى؛ هل كان مفروشا بالورود؟ لا.

كانت أشواكه أكثر من زهوره.. مخاطره أكثر من احتفالاته، وصداماته مع كل السلطات في كل العصور لم تتوقف.

لكنني أوقن- لو عاد بي الزمن بكل أحداثه- أنني ما كنت سأختار مهنة إلا هي، مهما تدهور بها الحال، وتعرضت للضغوط التي تغير من طبيعتها أحيانا. أقولها ليس فقط لنفسي، ولكن لجيل شاب من الصحفيين ربما يفقد الحماس أحيانا أو الثقة أحيانًا أخرى في جدوى مهنته: ستبقى الصحافة صوت الناس، السلطة الرابعة ورقيب الأمة. وستبقى الأسئلة الخمسة التي تعلمناها هي الكاشفة عن الحقيقة: متى، ماذا، من، لماذا، أين. وعليهم أن يجيبوا عنها.. ولو بعد حين. وسأبقى فخورة بانتمائي لبلاط صاحبة الجلالة.

إعلان