إعلان

كرة القدم كراية وطنية.. الجوانب الثقافية والسياسية للساحرة المستديرة (3 ـ 6)

د. عمار علي حسن‎

كرة القدم كراية وطنية.. الجوانب الثقافية والسياسية للساحرة المستديرة (3 ـ 6)

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 05 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

يأخذ لاعب كرة القدم أحيانا هيئة السياسي المحترف أو المحارب، فقد كان اللاعب المجري في برشلونة ساندرو كوكسيس يسمي صاحب "الرأس الذهبي"، لتصويباته الدقيقة برأسه نحو المرمى، حتى أن الناس كانوا يقولون إن رأسه هو الأفضل في أوروبا بعد رأس الزعيم البريطاني ونستون تشرشل.

وأثناء بطولة كأس العالم 1990، كتب الروائي المصري عبدالحكيم قاسم عنوانه "ميلا أيها الكاميروني" شبه فيه هذا اللاعب الأفريقي الفذ بـ"سبارتاكوس" محرر العبيد أيام الإمبراطورية الرومانية، وهو ما يمثل استعارة صارخة بين الرياضة والسياسة، وبين الأولى والحرب أيضا، والأهم منها هو ربط كرة القدم بقضية التحرر الإنساني.

واهتم بعض علماء السياسة وممارسوها بمناقشة علاقتها بالألعاب الرياضية بوجه عام. فها هو السيناتور الأمريكي الراحل ويليام فولبرايت يأتي على ذكر كرة القدم في سياق كتابه ذائع الصيت "ثمن الإمبراطورية" الصادر عام 1989، وهو يناقش مخاطر الصراع الأمريكي ـ السوفيتي وقت أن كانت الحرب الباردة تلفظ أنفاسها الأخيرة، حيث رأى أن هذا الصراع لا يمكن أن يكون مماثلاً للتنافس حول من تكون له الكلمة العليا في ملعب لكرة القدم، ثم لاحظ أن التنافس الدولي لا يدعو للسرور في ظل سباق التسلح وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، بينما لا يؤذي التنافس الرياضي أحدًا، بل يستمتع به الجميع.

لكن هناك وجهة نظر تطرح تطابقا في الاستعارة المتبادلة بين المجالين في حالات سياسية معينة، حيث يمكن في كرة القدم أن نصنع من أنصاف الموهوبين نجوم سوبر كما نصنع من أنصاف الساسة طغاة وأنصاف آلهة.. في كرة القدم لم نعرف التعدد في أدوار البطولة.. هناك احتكار لأدوار البطولة الكروية، كما في السياسة حيث لم نعرف الديمقراطية.. عندما نخسر في كرة القدم فهناك مؤامرة من الحكام أو أرضية الملعب، تماما مثلما نخسر في السياسة فهناك عالم يتآمر علينا ولا يحب لنا الخير والسلام.. وفي كرة القدم كما في السياسة نحول الانتصارات الصغيرة إلى معجزات خارقة وغالبا ما ننسب المعجزة الوهمية إلى فرد سواء كان لاعبًا أو سياسيًا، كما يرى كامل عبدالفتاح في مقاله عن كرة القدم والسياسة.

غير أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى آخرين يعتبرون العلاقة بين الكرة والسياسة مفتعلة، ويحذرون من خطرها. وهم لا ينكرون، بتوجههم هذا، وجود علاقة بين الكرة والسياسة، ولكنهم يرفضون اعتبارها أمراً طبيعياً ناهيك عن أن يكون بديهياً، لأن ما هو طبيعي في نظرهم هو التعامل مع كرة القدم، وأي لعبة أخرى، بوصفها مجرد رياضة لا أكثر ولا أقل. فهي في نظر هؤلاء ليست سياسة، ولا ينبغي أن تكون، ولا يجوز التعامل معها بوصفها صورة مصغرة للدولة، ولا تعبيراً عن انتماء وطني أو كبرياء قومي. ولا يصح اختزال الدولة في أقدام ورؤوس أحد عشر لاعباً في ملعب للكرة وفي مباراة مدتها تسعون دقيقة.

ومن السخف أن يكون فوز هؤلاء اللاعبين مصلحة وطنية للدولة، والعكس. كما أن التشبيه بينهما في موضوع المنافسة باعتبار أن الكرة والسياسة تقومان على التنافس، يبدو مجرد زعم ضعيف لأن التنافس في الكرة سلمي، والعنف هو الاستثناء، والأمر ليس كذلك في السياسة التي تعرف مستويات متفاوتة من العنف تبدأ باللغة المستخدمة في إدارة الخلاف وتنتهي بالاغتيال والتفجير، وفق ما يراه وحيد عبدالمجيد في دراسة مهمة له عن العلاقة بين الكرة والسياسة.

وألقى الروائي والناقد الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو عدة محاضرات حول اللعبة، ونشر دراسات سيمائية بعد مونديال 1990، حيث رآها علامة من العلامات التي ترتكز على الكذب، لأنها رغم زيفها وسطحيتها تؤخذ على محمل الجد، وتكون لها أحيانا عواقب خطيرة، حين تحدد بعض مسارات التنافس الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، وترتبط بالقوة والهوية.

ويتساءل الأديب الأورجواياني إداردو جوليانو، الذي تعامل مع كرة القدم على أنها مرآة للعالم تقدم ألف حكاية وحكاية مهمة فيها بعض معاني المجد والاستقلال والحب والبؤس: أهي أفيون الشعوب؟ ليستعيرها محل "الدين" وفق التصور الماركسي، حيث العبارة الشهيرة لكارل ماركس التي أراد بها فضح توظيف الدين في تخدير عقول الفقراء كي لا ينتفضوا مطالبين بحقوقهم، فقال: "الدين أفيون الشعوب"، ثم يقول جوليانو: "عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المصابة بمس كرة القدم تفكر بأقدامها، وهذا من خصائصها، وفي هذه المتعة التبعية تجد نفسها، فالغريزة البهيمية تفرض نفسها على الجنس البشري، والجهل يسحق الثقافة، وهكذا تحصل الدهماء على ما تريد".

ووصل الأمر إلى أن نجد من يدخل الكرة في مساحة "الحلال" و"الحرام"، فجعل أصلها وثنيًا، وأنها قد تم نشرها بين المسلمين لإفسادهم، وتضييع أوقاتهم، وتبديد طاقاتهم، وإلهائهم عن ذكر الله، اللهم إلا إذا كان المقصود من لعبها هو تعلم الكر والفر في ساحة الجهاد.

لكن عالم الدين المصري الشهير الشيخ محمد متولي الشعراوي ذهب إلى معنى أكثر حصافة حين قال: "حكموا اللعب بقانون الجد، وحكموا الجد بقانون اللعب"، وكان يقصد أن الإجراءات والأداءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تحكمها قواعد مستقرة ومنضبطة وعادلة وشفافة، بينما تتوافر مثل هذه القواعد في الألعاب الرياضية، وهو في نظره من قبيل المفارقة اللاذعة بين الكرة والسياسة.

ويلمس الفيلسوف المصري د. حسن حنفي هذه المفارقة، حين يجعل الكرة والسياسة في موضع متناقض، أو يقيم منافسة بينهما، هي محل رفض لديه، حيث يحل التحزب للنوادي محل التحزب السياسي، ويصنف الناس بين الولاء للنوادي ورموزها وألوانها بدلا من الولاء للأحزاب وشعاراتها، وما زاد الطين بلة نشوء ظاهرة "الألتراس" ultra حيث الشباب شديدو الولاء لأنديتهم الرياضية، يرتدون زيا معينا له لون واحد، ويطلقون هتافات خاصة، ويقومون بحركات مميزة، كما كان الأمر في الشباب السياسي، القمصان الخضر في حزب مصر الفتاة، التنظيم السري في جماعة الإخوان، شباب الطليعة الوفدية وربما أيضا شباب الحزب النازي، مع الفارق.

وفي ظل التسلطية السياسية يرى المفكر المصري نبيل عبدالفتاح أن الشباب "ينخرطون في تشجيع الفرق الرياضية لا سيما كرة القدم ثم تشكيل فرق الألتراس نتاجًا للعولمة وثورة المرئيات والرقميات، والتي تحولت بفعل موت السياسة والقمع إلى أحزاب سياسية بل وصلت إلى حد أن أصبحت أقرب إلى الطوائف ذات اللغة الخاصة، والشعارات، والانضباط التنظيمي الصارم، وقدرة قادتها على الحشد، والتعبئة، وتوظيف الطاقات الجيلية الشابة، في التشجيع للفريق، والتأثير على إدارة الفرق الرياضية، وعلى مجالس إدارات الأندية والمدربين واللاعبين، والأخطر أنها تمارس ضغوطا ثأرية على السلطة السياسية، والأمن .. ظاهرة الألتراس هي الوجه الآخر الموازي لسعي بعض المنظمات الدينية والسلفية لتديين المجالين العام والخاص، والسياسة في مصر، وتضييق دائرة الأنشطة الشبابية والجماهيرية في إطار التدين المذهبي المسيس، ومن ثم وجد غالبيتهم في الألتراس ملاذاً وفى كرة القدم مجالاً واسعاً لاستيعاب طاقاتهم".

(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

إعلان