إعلان

الدنيا والآخرة على جدران المدارس

الدنيا والآخرة على جدران المدارس

أمينة خيري
09:00 م الإثنين 24 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

كنت قد عاهدت نفسي أن أتحكم في زمام النقد، وأسيطر على جنوح التعجب الذي لا يخلو من تنديد ولوم. وظللت على العهد طيلة ما يزيد على أسبوع، كنت أمرّ جيئة وذهابًا أمام مدرسة في حي الخلفاوي تتخذ كغيرها من الجدران وسيلة لتوصيل رسائل.

وبغض النظر عن الجهات أو الأفراد الذين يُفترض أن يتلقوا تلك الرسائل، فإن ما استفزني عبارة مكتوبة "جديدة نوفي" تشير إلى أن "النظافة من الإيمان".

تلك العبارة الخالدة التي طالما كتبها أستاذ اللغة العربية على السبورة ذات الطباشير أو تلك البيضاء ذات الـ"ماركرز" أو حتى الذكية سليلة عصر تقنية المعلومات ورقمنة الاتصالات لتستخدمها الأجيال المتواترة في موضوع الإنشاء المطلوب كتابته عن أهمية النظافة في حياتنا اتخذت من الحائط المدرسي موقعًا بارزًا بازغًا.

لكن بزوغ العبارة الخالدة لم يمنع بزوغ تلال القمامة المتراصة أمامها مع مئات "الطير" الذي يحوم فوقها، وهو تشكيلة منتقاة من الذباب والدبابير والنحل المسكين الذي لم يجد في المنطقة وردة أو زهرة يفتئت عليها.

وعلى الرغم من المشهد الذي يرفع ضغطي ويحرق أعصابي ويخدر أناملي في كل مرة أمر أمامه، فقد قاومت، وحافظت على عهدي في عدم الانتقاد، وهي المقاومة التي انهارت تمامًا وخارت قواها صباح أمس في قلب منطقة روكسي النابض.

مدرسة أخرى تسير على النهج الجداري ذاته، حيث الجدران وسيلة اتصال جماهيري ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يعلم أحد على وجه التحديد مبتدعها الذي ينبغي محاكمته بتهمة التشويه ووزر تشجيع الصغار على تلطيخ الجدران عبر المحاكاة. هذه المرة العبارة المكتوبة على الجدار يقول نصها: "ثواب الآخرة خير من نعيم الدنيا".

ولأن في هذه الدنيا ما يستحق الخروج على العهد وإطلاق العنان لينابيع النقد والتنديد، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو:

بحق السماء هل هذه عبارة تُكتب على جدار مدرسة ابتدائية؟

وهل هذا حقًا ما نريد أن نبثه في قلوب وعقول الصغار الذين يعانون معاناة مريرة من تهلهل وتحلل وتدهور نظام تعليمهم على مدار عقود؟

ويا ترى يا هل ترى ما الذي كان يدور في ذهن العبقري الذي اختار هذه العبارة لتكون نبراسًا للجيل القادم؟

وعلى سبيل فك لوغاريتم تلطيخ الجدران المدرسية من الأصل، هل تجري مراقبة ومراجعة ما يجري كتابته إن كانت الكتابة أصلاً شرًا لا بد منه؟

وتقودنا عبارة إقناع الأولاد والبنات بأن الآخرة أحسن من الحياة، وأن الدنيا فانية، وكله رايح، وأنه لا يوجد ما هو أمر من الأيام التي نعيشها، وأن أجمل الأيام لم تأتِ بعد، ولن تأتي أصلاً، وأنه لا داعي للتخطيط للغد؛ إذ ربما نموت قبل أن تشرق شمس يوم جديد، وأن الفرحة بالتعليم ولقاء الأصدقاء لن تدوم لأن الموت قادم لا محالة، وأن الامتحان الحقيقي ليس في الكيمياء أو الفيزياء أو حتى الأحياء، لكنه في يوم الحساب وغيرها من المفاهيم التي لا تعكس كتابتها على الحائط إلا ما يجري زرعه في الفصول القابعة وراءه.

والحقيقة أنه ليس لدي أدنى شك بأن الفكر القابع وراء هذه الكتابة الجدارية المدرسية يهيمن على أدمغة وقلوب نسبة كبيرة جدًا من القائمين على أمر التعليم المدرسي، لا سيما الحكومي.

وبالمناسبة لا أناقش هنا فكرًا دينيًا، ولكن أطرح للنقاش المفاهيم التعليمية التي يتم بثها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. (بالإضافة لافتراض أن هذه المدارس مدنية وليست دينية).

وتعليقًا على الصورة التي التقطتها للآخرة على سور المدرسة، ووضعتها على "فيسبوك" كتب صديقي الصحفي المصري المخضرم والمهاجر إلى بريطانيا منذ عقود طويلة هذه الكلمات:

"على ظهر أغلفة الكراسات في مدارس وزارة المعارف في الأربعينيات والخمسينيات كانت هناك ست نصائح عن: التعليم، والتحصيل، والعمل، وواحدة عن الأناقة، والملبس النظيف، واثنتان عن النظافة الشخصية ونظافة المأكولات.

وأغلب المدارس كانت مزودة بمطاعم تشرف عليها "دادات" يتأكدن من إمساك الصغار بالشوك والسكاكين بشكل سليم.

وقتها لم تكن هناك أي كتابات عن الشياطين والعفاريت وتفضيل الآخرة على الدنيا.

كما كانت هناك دوريات تفتيش مفاجئة للتأكد من نظافة وجوهنا وأيادينا.

أما الزي المدرسي، فكان- في ضبطه وربطه ونظافته وقدسيته أقرب ما يكون إلى زي الجيش.

إعلان