إعلان

 الوظيفة العمومية.. رسائل متناقضة

الوظيفة العمومية.. رسائل متناقضة

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 01 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

منذ ما قبل إقرار قانون الخدمة المدنية رقم ٨١/٢٠١٦ تم نشر رؤية لإصلاح الجهاز الإداري للدولة، وقد تضمنت الرؤية عددا من التحديات، كان أولها تضخم الجهاز الإداري للدولة. وهذا الأمر- وإن كان صحيحا من الناحية النظرية- يحتاج لمزيد من التدقيق والتحليل.

ومرد ما سبق هو ما أثير في الآونة الأخيرة من المسؤولين عن الإصلاح الإداري في مصر من الحاجة إلى إدارة أفضل للموارد البشرية تمشيا مع متطلبات تفعيل قانون الخدمة المدنية من جهة، والاستجابة لتقديم خدمات حكومية جيدة من الجانب الآخر.

والإدارة الجيدة للموارد البشرية تحددت من وجهة نظر المسؤولين في التركيز على الارتقاء بالهياكل المعنية بتنمية الموارد البشرية، وعلى رأسها تحويل إدارات شؤون العاملين إلى إدارات للموارد البشرية، ثم تصميم حزم تدريبية تتواكب مع متطلبات العصر الحديث، وتساعد على تمكين موظفي الخدمة المدنية من الارتقاء بقدراتهم وتحسين أدائهم.

كانت تلك الرسالة الأولى التي صدرت رسميا بخصوص الوظيفة العمومية عام ٢٠١٥. وما لبث أن أقر قانون الخدمة المدنية عام ٢٠١٦ حتى تعالت أصوات عديدة برسائل متناقضة، بعضها ينحو نحو مخالفة فلسفة القانون والقفز فوق تحدي تضخم الجهاز الإداري "نحو المطالبة بتثبيت غير المثبت، أو إلحاق عمالة غير منتظمة بالجهاز الإداري للدولة.

وقد تزامن ما سبق مع بدء تنفيذ حزمة الإصلاح الاقتصادي، بعد توقيع مصر على الاتفاق الإطاري مع صندوق النقد الدولي الذي طالب بإجراء إصلاحات هيكلية، من بينها عدم التوسع في التعيينات في الجهاز الإداري للدولة وفي منح المكافآت والحوافز التي لا يقابلها عمل ملموس. وإذا كان منطوق البند لم يشر من قريب أو بعيد إلى خفض أعداد العاملين في الجهاز الإداري للدولة، فقد يقود لذلك.

ولا أود أن يُفهم مما سبق أنني ضد ترشيد حجم الجهاز الإداري للدولة حتى يستطيع أن يؤدي مهامه باقتدار وكفاءة، وإنما أطرح التناقض في الرسائل الموجهة للوصول إلى ذلك الهدف.

...

مما لا شك فيه أن صدور قانون الخدمة المدنية ولائحته التنفيذية سبق الاتفاق الإطاري مع صندوق النقد الدولي. كما أنه سبق حزمة من القوانين كقانون الاستثمار وغيره. وهو أمر يحتاج إلى تدقيق النظر في "زمن إصدار القوانين" وتأثير ذلك على كفاءة وفعالية تنفيذها.

لقد نص قانون الخدمة المدنية على جواز تقديم الموظف طلبا للخروج إلى المعاش المبكر في سن الخمسين وفي سن الخامسة والخمسين مع تمتعه بمكافآت وحزم تأمينية. وأود أن أتوقف قليلا عند هذه النقطة. حيث بدأ المسؤولون في التفكير في كيفية حفز الموظفين على اختيار الخروج طواعية إلى المعاش المبكر. وفي عام ٢٠١٦ جرت مناقشات حول موضوع الخروج المبكر وحول المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك، حيث كان من المتوقع أنه لن يخرج إلى المعاش المبكر سوى الذين لديهم قدرات ذهنية ومادية مرتفعة للاستفادة من خبراتهم في مجالات خارج الوظيفة العمومية. كما تم التقدم باقتراحات حول منح الموظفين أراضٍ وعقارات بتسهيلات تعوضهم عن الاستمرار في الوظيفة العامة حتى سن الستين. ثم سكت المسؤولون برهة عن طرح هذا الأمر مع التقدم في برنامج الإصلاح الاقتصادي وما صاحبه من تداعيات تمثلت بشكل رئيسي في ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الضرورية، وهو التطور الذي لم يكن ليتناسب مع التشجيع على الخروج مبكرا من الخدمة المدنية.

وبدأ التفكير مرة أخرى مع نهاية ٢٠١٧ في حلول لحل معضلة تضخم الجهاز الإداري وسوء تقديم الخدمات الحكومية من خلال مقترح خفض عدد ساعات العمل المنصوص عليها بـ٣٥ ساعة عمل في قانون الخدمة المدنية. وبالفعل تم نشر مقترح خفض أيام العمل من خمسة أيام إلى أربعة أيام عمل، وقيام كل موظف باختيار أيام العمل في الأسبوع. كما تم فتح الإجازات بدون مرتب وبلا قيود.

...

وفي الواقع لنا أن نتساءل عن المرجعية المجتمعية والاقتصادية والسياسية لتلك المقترحات من جهة، وعما إذا كانت تتم في إطار الحفاظ على الفلسفة التي وضع من أجلها قانون الخدمة المدنية من حيث الاستثمار في الموارد البشرية وتحقيق كفاءة الجهاز الإداري للدولة.

وهذا الأمر من الصعب أن يجيب أي مسؤول عنه في ظل غياب دراسات علمية دقيقة لطبوغرافية وأداء الجهاز الإداري الذي يتكون من بشر وهياكل وتنظيمات ونفقات.

فكيف يمكن اتخاذ قرار بخفض عدد ساعات العمل بدون دراسة دقيقة لحجم الأعمال الحالية والمطلوبة مستقبلا.

وقد يجيب البعض بأنه في ظل التحول الرقمي وميكنة الخدمات الحكومية سيكتفي جهاز الإداري بعدد محدود وبمواصفات محددة. والواقع يشير إلى خلاف ذلك لأمرين:

إن تطبيقات الحكومة الإلكترونية لم تفعل منذ ٢٠١٠ بالشكل المأمول، حيث ما زلنا في مرحلة الاستعلام الإلكتروني عن معظم الخدمات، ولم ننتقل بعد إلى الخدمات المميكنة بشكل كامل أو ما يطلق عليه " نضج الخدمات إلكترونيا".

كما توجد إشكالية أخرى متمثلة في عدم دراسة آليات مقاومة الموظفين للميكنة وكيفية التصدي لها. كما لا توجد دراسات تثبت فرضيات تحقق الكفاءة مع خفض عدد ساعات العمل..

كما كيف يمكن عدم المساس بأجور بعض موظفي الخدمة المدنية مقابل عدد ساعات عمل أقل؟ أليس ذلك تعديا على مفهوم العدالة الاجتماعية من جهة، وترسيخا لثقافة إعالة الموظف من ناحية أخرى؟

في نفس الاتجاه، كيف يمكن الحديث عن خفض عدد ساعات العمل، ولا توجد دراسات للعجز والفائض من القوى البشرية في الجهاز الإداري للدولة؟

فهناك جهات ستحتاج خلال سنوات قليلة لعمل و لعمالة. كما أن القول بأن خفض عدد ساعات العمل سيوفر كهرباء وبنزينا، ويحد من تكدس المرور- أمر غير مدروس. فذات الحافلة التي ستقل موظفا يوم الخميس هي ذات الحافلة التي ستقل موظفا يوم الأربعاء. فالحافلة ستتحرك في كل الأحوال. كما لا توجد دراسات حول الخبرات والكفاءات التي يمكن أن يفقدها الجهاز الإداري للدولة في ظل قرارات وسياسات لا ترتكز حتى هذه اللحظة على دراسات موضوعية تستقرئ الواقع الاقتصادي والسياسي قبل أن تستقرئ خبرات الدول الأخرى في هذا الشأن. وكأننا في خصومة مع إجراء أي دراسة علمية موثقة بمؤشرات داخل الجهاز الجهاز الإدراي.

...

إصلاح الجهاز الإداري للدولة يحتاج إلى تخطيط دقيق مع استدامة. وفجائية القرارات المتعلقة بالوظيفة العمومية وصعودها وهبوطها وتناقضها إنما تكشف عن قصور في التخطيط، وعن البدء في الحياد عن فلسفة قانون الخدمة المدنية، بالإضافة إلى ضعف تقدير المخاطر الإدارية والاقتصادية والمجتمعية. كما أن توقيت وضع سياسات كتلك يحتاج إلى دراسة متأنية. فما كان من الممكن تطبيقه قبل ثلاث سنوات قد يصعب تطبيقه الآن بدون دراسات وتقديرات جيدة.

إن التركيز على حل إشكالية تضخم الجهاز الإداري للدولة، من خلال الاقترابات السابقة من خلال الانشغال فقط بمفهوم العدد والتكدس لن يقود إلى حلها، لأن المشكلة أعمق من العدد وتتجاوزه إلى تزامن عناصر الاصلاح الاقتصادي مع الاصلاح الإداري، وإلى خطط ودراسات تدريجية على مراحل زمنية مختلفة تتلمس المتطلبات التنموية للدولة.

إعلان