إعلان

رائحة الصباح الأول.. "قصة قصيرة"

رائحة الصباح الأول.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 31 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

من شرفة تطل على كامل فضاء البحر يتأمل القوارب ذات اللون الأبيض وهى تلوح بعيدا، تبدو ملتصقة ببعضها نحتًا طبيعيًا يمتد منذ تاريخ أزلي، يحتفي به في عينيه ويطبق عليه كأنه يسجل لحظته وصورته فتبقى، يتذكر أن هذا صباح اليوم الثاني له هنا، كان قد حرك الستارة الداكنة الثقيلة ونظر فرأى تلك المساحات المتقاطعة من اللونين الأبيض والرمادي في السماء، فتح الباب المفضي إلى الشرفة ومشى نحو سورها ووقف ينصت لصوت موسيقى متقطع يأتي من داخل البحر، ويفكر هذا مفتتح صباح يليق بالمكان.
أعجبته فكرة أن يذهب فورا إلى الشاطئ، هبط من غرفته في الطابق الثاني في المبني الذي يواجه البحر مبتعدا قليلا، وكان كلما اقترب ظهرت ملامح شخص واحد .. بادر بصباح الخير .. وأضاف هذه موسيقى أعرفها وتبدو كأنها تحتفي فرحا بنهار يوشك، ثم أشار بيده نحو المبنى وهو يؤكد أنه سمعها من هناك.

حملت حقيبة كبيرة مفتوحة من على كرسي مجاور وقالت: تفضل؟

شكرها كثيرا وجلس، قدمت له بعضا من البسكويت المزدان بقطع الفاكهة الصغيرة، تناولها مرحبا وبدأ يتذوقها ووجدها لذيذة، قال لها إن طعم تلك البسكوتات لم يذقه طيبا هكذا من قبل، قالت بالهناء.

ومضيا يتحدثان عن شكل المدن التي نشأت على شواطئ البحر واختلافها، سألها هل يصنع الناس بطريقتهم في الحياة طبيعة المدن أم أنهم يأخذون منها شيئا من سماتهم وأيضا مزاجهم؟ تحدثا كثيرا وطال الجدل وكان مشهد حضور الشمس على مهل لافتا، كان العمال قد بدأوا ينتشرون وهم يفتحون بعض مظلات الحماية من الشمس المتراصة على الشاطئ، تصافحا ومشى متمهلا نحو المبنى ليستكمل عملا جاء من أجله.

تحدد موعد استيقاظه اليومي تلقائيا وتبعته تشكلات طقوس صارت محببة بأن يبدأ بإزاحة الستارة الداكنة قليلا، وينظر من الشرفة فيجدها هناك تستقبل موجات البحر الصباحية الأولى، تجلس دوما في الطرف الأيمن للشاطئ وحيث يمكن بقليل من تركيز في هذا الهدوء الجم أن تتسرب إليه بعض نغمات الموسيقى التي تصاحب جلستها.
يفكر وهو يهبط ويسير نحو الشاطئ ربما نعرف الشخصيات من اللحظة الأولى ونظل نختبر ما أدركناه حينها، كانت للمرأة التي تبادر إلى البحر صباحا حضورا خاصا، لا يمنحه الوصف معني جاهزا بل هي ملامح تتشكل كل صباح على مهل.

على المنضدة البلاستيكية الصغيرة يستلقي كتاب مغلق يظهر عنوانه "أنثروبولوجيا اللغة لدى سكان الجزر المنعزلة" يبدو العنوان متخصصا تماما، يسألها هل تهتم بدراسة اللغة فتقول من اهتماماتي الأساسية فيكتفي بهذا الرد، يقول لها إن اللغة هي الاختراع الأكبر في تاريخ الإنسان، فورا يرى الجملة بائسة مكررة فيسرع ليضيف: فلنتخيل أزمة البشر إذا لم يبادر أولئك الأوائل بالاتفاق بشكل ما على أن فنجان قهوة يعنى ما نعرف وهو يشير إلى فنجان موضوع.

قالت هذا الكتاب يتحدث عن أن اللغة تنمو وفق ثقافة وعادات الناس، الاستخدام يثبتها ويمد في شجرة عمرها، وأنه حين تتعرض المجموعات البشرية الصغيرة ذات الأنظمة اللغوية المختلفة إلى اندماج واسع في ثقافات محلية أكبر يبدأ قاموس اللغة في الضمور وتقل مترادفاته وينحصر عن أن يؤدى وظيفته في وصف الأشياء بدقة فيتم التخلي عنه وهكذا تختفي اللغات.
قال كلاما عاما عن إحصاء يتذكره عن أن العالم لم يعرف لغة كونية أكثر انتشارا سوى مع دخول ثقافة الاتصالات الحديثة.
صار صديقا لمحرك البحث جوجل ومهتما بالفكرة يبحث عن أصل اللغات وعوامل اندثارها وكيف تتشكل وتنفصل عن لغات أم، يقرأ ويسأل كيف تتشكل مساحة هادئة وقورة بين البشر عبر مشترك إنساني حوارا أو فكرة أو حتى نغمة موسيقية بل وحتى شكل الصباح المبكر على البحر.
عرف بدء مواقيت اليوم بالمرأة التي تظهر على طرف الشاطئ عند أول ضوء النهار وتسمع الموسيقى، وحيث تأتي دوما القهوة في تلك الفناجين البيضاء المرسومة بلون أزرق، ينظر هذه المرة للخيوط الزرقاء الرفيعة فيراها أقرب إلي رسم قارب أو هكذا تصورها.
في اليوم الخامس من توقيت شاطئ المكان وبعد ظهور أول ضوء تحدثا عن أفلام السينما، قالت أواظب على متابعة الأفلام السينمائية الجديدة وعروض المسرح كلما سافرت، قال إن له سنوات طويلة لم يدخل السينما لكنه متابع للأفلام التي يحب مخرجيها وممثليها، وأضاف أن موضوعات أفلام السينما الكلاسيكية تتحدد في مجال تيمة درامية تمنح البطل والبطلة دورين متوازيين، وأنه استثقل ذلك سابقا ثم بعد تفكير قرر أنه أقرب لفكرة كيف بدأ الكون واستمر.
نظرت نحو البحر وقالت أحب كثيرا تلك السينما التي تتخذ من مدن البحر موقعا أضافت ربما بحكم المولد، تحدثا عن بعض مخرجي السينما، وقال إنه بهرته السيرة الذاتية للمخرج الإيطالي فيلليني وحفزه ذلك علي رؤية أفلامه، لكنه لا يحب كثيرا المخرجين صناع حكايات أفلامهم استشعرها حائرة مشتتة، ولا يقبل الادعاء بأنها تعبير عن تيه الإنسان، وهم اليوم يمنحون جوائز لأفلام الرعب والخيال العلمي، ربما يعتبرون أن الاستغراق في سرد حكاية الإنسان العادي في السينما لم يعد مهما.
قالت فجأة وهى تنظر نحو السماء: أنظر كم أن الشمس جميلة هذا الصباح تبدو كأنها ترسم على البحر شيئا جديدا كل يوم، هل تخمن ماذا رسمت اليوم؟ سريعًا أقول زهورا.
تحدثا كثيرا عن العالم ولم يتحدثا عنهما، ولم يكن ذلك مهما أبدا، كان ذلك هامشيا تماما لغريبين على مقعدين متجاورين على طرف شاطئ يحتفي بضوء الشمس على المتوسط، الخبز المحمص وشرائح الجبن وعصير البرتقال تعيد بهجة اكتشاف الحياة الأولى التي بدأت هنا منذ آلاف السنين.

قالت إن المكان والضوء الذي ينمو والبحر جميعها تبدو أغنية فريدة نشكل إيقاعاتها بعيوننا كأن لم يسمعها أحد قبلا، رد كم هي بليغة تلك الجملة، أخرجت قلم رصاص من حقيبتها ورسمت قاربا وموجا في منتصف الصفحة الأولى التالية لغلاف الكتاب، وأهدته له.

إعلان