إعلان

كفاية أكل

كفاية أكل

عادل نعمان
09:00 م الإثنين 04 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

آلاف الأطنان من السلع الغذائية والتموينية في المجمعات الاستهلاكية والمحلات الكبيرة والصغيرة نفدت وأستهلكت، الآلاف من الذبائح المعلقة على أبواب الجزارين من اللحم البقري والجاموسي والضاني نحرت والتهمت وأفترست، الملايين من الدجاج البلدي والأبيض والبط والأوز والحمام والرومي أبتلعت وهضمت، أطنان من الخضر والفاكهة بأشكالها وألوانها هرست وطحنت، الملايين من أكواب الشاي المغلي وفناجين القهوة، مع الكنافة والقطايف بالمكسرات وبالكريمة والبسبوسة والصواني المشكلة من الحلويات الشرقية كشحتها معدات المصريين دون كلل أو ملل أو عسر، الملايين من أحجار الشيشة المختلفة المذاق بالتفاح والليمون والجوافة تصاعد دخانها إلى عنان السماء من ثقل الامتلاء، وزحام التخمة، برامج الاكل والطبخ على القنوات الفضائية في ماراثون نهارًا عن الأكلات التي تفتح الشهية، تحفز البطون الفارغة، والجيوب الممتلئة، وتغري الصائمين بما لذ وطاب من أنواع الطعام، وتحرضها على التهام كل هذه الأصناف دون شفقة أو رحمة، مليارات الساعات من العمل قد ضاعت هباءً منثورًا من الكسل والوهن، ومن النوم على الأرصفة، وفى ساحات المساجد المكيفة، وفى المواصلات العامة والخاصة، وفى البيوت تحت عنوان الصيام.

مصالح الناس وأعمالهم تعطلت، واختصر نهار العمل إلى الربع أو أقل من شدة الجوع والعطش والكسل باسم الصيام، ونفد الزاد والزواد والصبر، وازدحمت البطون، وضاقت الصدور، ووقفت العقول، واستهلك المصريون المخزون لأشهر قادمة، وتمددوا بعد الإفطار من شدة السباق والحشر، حتى كاد الأكيلة أن يهلكوا، وكادت البطون أن تنفجر مما تحمل وتتجشم، وكأننا نأكل في زادنا الأخير، وأتساءل وغيري: هل هو فعلًا شهر الصوم والزهد والتقشف؟ أم هو شهر البذخ والإسراف والتبذير والبعزقة؟ هل هو شهر الطاعات أم شهر الأكلات والمحمرات والمشمرات؟

كأننا نصوم طوال العام ونصبر عليه، ونفطر ونحشر ونعوض الجوع في شهر رمضان، لماذا لا يكون شهرًا كبقية أشهر السنة، نأكل فيه ونشرب كما نأكل ونشرب في يناير أو فبراير؟

لماذا أصبح شهر رمضان شهر الترقب والقلق؛ يضيفه الناس إلى همومهم كدخول المدارس أو موسم الامتحانات والاعياد، ويترقبه الناس بحذر ويعملون له ألف حساب؟

وإذا كان الصيام قد سنه الشرع لفوائد صحية كما قال الفقهاء عن قول الرسول: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء".

فما هى الفائدة الصحية التي تعود على الصائم إذا امتنع عن الأكل والشرب نهارًا، ثم يتخم نفسه ويقتلها أكلاً، ويملأ بطنه من المغرب حتى الفجر دون رحمة، والنتيجة هذه التخمة والسمنة المفرطة المدمرة.

وبفرض أن الصيام مفيد للصحة وهذا محل خلاف، فما هى الفائدة الصحية المأمولة إذا صام المسلم نهارًا وكربسها بهذا السيل المتنوع من الأكل والشرب ليلا؟ وإذا كان الصوم على هذا النحو درسًا عمليا للغنى ليشعر بمعاناة الفقير، ويحس ويدرك مدى حرمانه وشقائه، فكيف يشعر الغني بالفقير وحاجته، وسط هذا البذخ وهذا الإسراف الذي يشغله؟ وكيف يثق الفقير في حقيقة هذا الشعور إذا زاده الغني في الإسراف عن حده، ولم يراع أن الفجوة تتسع في هذا الشهر عن بقية الشهور، وتكشف أكثر مما تستر وتجهر أكثر مما تخفى؟ وحتى لو جاد عليه الغني ببعض الفضل والعطاء، فلا يخفى عليه أنها لحظة تكشف بعد الفارق، وعمق الهوة بينهما، ولم يكن يشعر بعمقها وبعد مسافتها في شهر من شهور العام ، فهو شهر بهذا البذخ كاشف للفروق الطبقية بحدودها كاملة دون مواربة، ويفشى أسرار الناس والبيوت وقدراتهم، ويفصح بجلاء عن الفارق بين الفقراء والأغنياء، ويكشف ستر البيوت المطمئنة أهلها طوال العام، ويحرج من كان مستورًا "وكافي خيره شره" وكان راضيًا لا يعكر صفو يومه أحد، أو يخترق أسوار حياته من ينغص عليه يومه ويستفز حاجته وعوزه، ويكشف ما كان مستورًا منه هذا الشهر، فإذا أضفنا إلى كل ما سبق هذا السيل من الاستفزاز على الشاشات ليل نهار، يصبح الرتق على الواسع، والتقارب المأمول بين الطرفين مغشوشًا ومكذوبًا، مهما زينته ابتسامة الطرفين، فهذا يخدع هذا بالود والحب، وذاك يخدعه بحسن الاستقبال والامتنان، ولا أتصور أن المستقبل سيكون قادرًا على حمل تبعات هذا التباعد وهذا التفاوت بين الفريقين، ولن يكون الهدف موصولا في المستقبل بينهما، وما حسبناه دعوة للتقارب ولم الشمل بين الناس سيكون هو ذاته سببا في التناحر والفرقة، وما اعتقدنا أنه يزيد الألفة والعشرة بين الغني والفقير سيزيدها بغضًا ونفورًا، واللي تحسبه موسى يطلع فرعون، وهو خطر لو تعلمون عظيم، انتبهوا من الإسراف في شهر رمضان، فهو شهر الصوم والعبادة فقط.

إعلان