إعلان

محمد البساطي.. الجوع كافر.. طبعاً!

محمد البساطي.. الجوع كافر.. طبعاً!

خيري حسن
09:02 م السبت 05 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

وقفت أمام منطقة كورنيش مصر القديمة؛ بالقرب من دير النحاس، حيث كان يقطنه أحمد إبراهيم الذى لعب دوره الفنان الراحل عماد حمدى فى فيلم «حياة أو موت» بعدما ظل منتظراًـ طيلة أحداث الفيلم- وصول زجاجة الدواء لقلبه المتعب مع ابنته الصغيرة، دون أن يدرى أن الزجاجة كان بها سم قاتل!

مرت الدقائق ثقيلة وكئيبة وأنا أواصل الانتظار، حتى أستقل سيارة ميكروباص فى طريقها إلى منطقة تسمى«تل العقارب» على أطراف حى السيدة زينب فى قلب القاهرة.

كنت أتحدث عن ذلك اليوم المؤلم الذى مررت به، أمام الكاتب الروائى الراحل محمد البساطى (1937- 2012)، ونحن جالسون على مقهى بوسط البلد فى نهاية عام 2007. أثناء حديثى معه حول إبداعه الأدبى الذى ارتكز فيه على هموم الإنسان، وعالم المهمشين فى القرية المصرية، خاصة الذين يعيشون على أطرافها، غير مهتمين بتبدل وتحول العالم من حولهم، ولا يعنيهم كثيراً سطوة السلطة على أحلامهم البسيطة.

نظر لى قائلاً: دعنا من الحديث عن الأدب والثقافة.. أكمل تفاصيل تلك الحكاية التى بدأت الكلام فيها. قلت:
الساعة كانت الواحدة ظهراً، والحر شديد، ونسائم الهواء المتقطع تأتى هادئة وساخنة؛ لتهاجم دون رحمة، الوجوه المرهقة بقسوة وعنف. بعد فترة من الوقت ليست قليلة، وقفت أمامى سيارة موديل قديم بعض الشيء. سائقها ملامحه غاضبة وركابها جميعاً صامتون- لا يتكلمون، وعلى ملامحهم خطوط متقاربة للموت، وخطوط متباعدة عن الحياة. صعدت وأخذت مكانى بصعوبة بجوارهم، ومن أنفاسهم الصاخبة شعرت أن الموت لم يعد فى زجاجة الدواء فقط، لكنه- بعوامل تطور الانهيار المجتمعي- طال أغلب مناحى الحياة فى ذلك الوقت من عام 2007.

على استحياء، بدأ الركاب يتحدثون إلى بعضهم. الكلام لم يخرج عن ظروف الحياة القاسية التى يواجهونها، فى ظل انهيار كاسح وشامل للحد الأدنى من مقومات الحياة.

بعد 30 دقيقة تقريباً وصلنا أسفل كوبرى السيدة زينب. السائق رفض استكمال الطريق حتى نقطة المحطة المتعارف عليها، ودار بينه وبين سيدة مسنة حوار عبثى، عندما حاولت استعطافه، ليكمل ما تبقى من مسافة حتى الوصول للمحطة، نظرا لظروفها الصحية السيئة. انتهى النقاش الحاد بينهما، بأن اطلق أمامنا قسماـ وأمام الشرطى الذى كان يقف لينظم حركة المرورـ بأنه لن يتحرك من مكانه، وعلى الجميع مغادرة السيارة الآن؛ وبالفعل تحقق له ما أراده لنا قهراً!

مازلت أتكلم. و«البساطي» أمامى يشعل سيجارة وراء أخرى. ويتنقل ببصره ما بين أركان المقهى- كنا نجلس تقريباً فى الشارع- وبين السماء التى تحمل غيوما معتمة. ويشير لى حتى أسترسل مستكملاً الحكاية. قلت:

تركت مقعدى مثل الجميع، واصطحبت السيدة فى طريقى، بعدما علمت أنها من سكان تلك المنطقة العشوائية التى تسمى« تل العقارب». حاولت جبر خاطرها ببعض الكلمات؛ لأمحو من ذهنها ما لحق به من أذى لفظى بلسان سائق منفلت أخلاقياً. ردت على قولى بكلمات حزينة قائلة: «خلاص.. خلاص يا بنى على الدنيا السلام».
ثم استفسرت عن سبب زيارتى للمنطقة. قلت: جئت لإجراء تحقيق صحفى عن الجوع فى «تل العقارب». ابتسمت ساخرة وهى تودعنى على مدخل شارع صغير، يوجد به مسكنها الذى وصلنا بالقرب منه، وقالت: «بدل ما تحققوا عن الجوع.. حققوا مع الناس اللى هتموت هنا من الجوع» ثم تركتنى وهى مازالت تتمتم بكلمات غاضبة ومؤلمة ضد كل شيء!

بدأت رحلتى داخل أزقة ودروب وشوارع ضيقة، تفوح منها رائحة الفقر. البشر فى المكان ينظرون لى بتوجس وتحفز. بدأ الخوف يتسرب إلى داخلى بعد دقائق، أمام نظرات حادة لفتيات تتأرجح على ملامح أجسادهن البارزة رغبات متوحشة. وشباب فى مستوى أعمارهن أو أكبر قليلاً، يقبضون على أيامهم التى تمر بلا أمل.

اقتربت من سيدة تجلس أمام حجرة متواضعة. قالت: نحن هنا فى مقبرة جماعية، حيث لا توجد خدمات ولا حياة آدمية من الأساس.ثم تحدثت قائلة: تركت أنا وزوجى قريتنا فى مركز أخميم بمحافظة سوهاج، هرباً من الفقر، فوجدناه هنا أشد بؤساً وقسوة. ثم أشارت إلى مسكنها الذى لا يتجاوز الحجرة الصغيرة، بعدما فتحت بابها، وقالت: هذه الحجرة نعيش بها أنا وزوجى وأربعة أولاد. ولكى نعيش وننام فيها، وينام أطفالنا الصغار، وضعنا أحجاراً تحت أعمدة السرير، لنرفعه عن الأرض قليلاً، حتى ينام تحت سقفه، ثلاثة منهم، وينام بجوارى أنا وزوجى طفلنا الرابع المريض بثقب فى القلب!

لم أنتظر حتى تنتهى من كلامها، ولم أستطع استكمال باقى التحقيق الصحفى الذى كنت ذاهبا إليه. وغادرت المكان مسرعاً، حتى وصلت سيرا إلى ميدان السيدة زينب، المزدحم بالبشر! وأنا أشعر بأنفاس اليأس تلاحقنى، وخطواته خلفى تدفعنى دفعاً حتى لا أعود إلى المكان مرة ثانية.

هز «البساطى» رأسه بحزن، وقال: هذا هو الفقر الذى يحول البشر إلى كائنات بشرية مشوهة. قلت: ألم يكن من الأفضل لهؤلاء أن يظلوا فى قراهم، بالصعيد أو الدلتا، ليعيشوا هناك حياة آدمية بعض الشيء. رد غاضباً: ومن قال لك إنه كانت هناك لمثل هؤلاء حياة من الأساس. أنا عشت فى الصعيد السنوات الأولى من طفولتى وصبايا. هناك الجوع أسوأ من هنا، على الأقل فى المدينةـ وهذا شاهدته بنفسى مرات عديدةـ حيث تجد بعض الفقراء بجوار صناديق القمامة، يفتشون فيها عن بقايا الطعام ليقتاتوا به، ويطعمون أطفالهم الجوعى. هذه ليست حياة.. هذا واقع متردٍ وبائس ومؤلم. والذى أوصلنا إلى هذا الانهيار الأخلاقى والمجتمعى هى سياسة الانفتاح الاقتصادى التى جاءت مع عصر السادات. تحدثنا وقتها فى أمور كثيرة تخص الثقافة والأدب والسياسة. وتحدث هو فى نهاية اللقاء بتحفظ شديد، عن أزمة حرية الإبداع فى مصر، خاصة أزمة الروايات الثلاثة (أحلام محرمة- محمود حامد. و«أبناء الخطأ الرومانسي» ياسر شعبان. و«قبل وبعد». توفيق عبدالرحمن) التى تسببت فى استقالته من رئاسة تحرير سلسلة أصوات أدبية التى صدرت عن هيئة قصور الثقافة عام 2001 بعدما هاجم الدكتور جمال حشمت- نائب إخوانى فى البرلمان وقتهاـ وزارة الثقافة واتهامها بنشر أعمال أدبية، تخدش الحياء العام، ولا تتفق مع الآداب العامة.

تركته فى المقهى يستقبل شاعر شاب كان على موعد معه، لأهدائه ديوانه الأخير، ولم ألتقِ به مرة أخرى إلى أن رحل بعد رحلة مرضية قاسية واجه فيها مرض سرطان الكبد، بألم وصبر، بعدما هاجم جسده الضعيف بضراوة فى رحلة مرضه الأخيرة عام 2012. وقتها رفض اللجوء للعلاج على نفقة الدولة، واعتبر نفسه فى حالة خصام وانفصال دائم معها، منذ أزمة الروايات الثلاثة التى تخلت فيها الدولة عنه- وكان معه فى تلك الأزمة الراحلان الأديب إبراهيم أصلان والناقد على أبوشادى- بعدما تنصل فاروق حسنى، وزير الثقافة حينذاك، من مسؤوليته تجاه حماية الإبداع وحرية الفكر والرأي؛ ليداعب نظام مبارك- من خلال تلك الأزمة- جماعة الإخوان وقتها، ضمن سلسلة من الألاعيب السياسية التى دارت منذ ثورة يوليو 1952 ما بين نظام يوليو ورجاله وبين نظام المرشد وجماعته.

فى منتصف عام 2012 مات صاحب (التاجر والنقاش) و(صخب البحيرة) و(هذا ما كان) و(ساعة مغرب) و(منحنى النهر) و(أصوات الليل) و(بيوت وراء الأشجار) و(الأيام الصعبة) و(الجوع) وغيرها من الأعمال الإبداعية التى تنوعت ما بين القصة القصيرة والرواية. مات فى هدوء دون صخب، مثلما عاش فى هدوء، بلا ضجيج، بعد رحلة إبداع وقف فيها بجوار الفقراء المهمشين بحثاً عن حياة يستحقونها. بعدما ساندهم ورسم حكاياتهم الحزينة، على أمل أن يساعدهم هذا فى مواجهة زيف المظهر الاجتماعى الخادع، الذى تحول الإنسان فيه إلى كائن آخر غير نفسه. مثلما حدث مع سكان «تل العقارب».

ـ وغيرهم- ممن يعيشون على الهامش، الأمر الذى دفع بأم إلى أن تضع أطفالها الصغار، تحت السرير ليناموا فى حضن عتمة الليل، وهم فاقدو الحلم فى طلوع النهار.

إعلان