إعلان

بين مُتحف كافكا وبيت فان خوخ

بين مُتحف كافكا وبيت فان خوخ

ياسر الزيات
09:01 م الأربعاء 02 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

بعد مرور أقل من عشر دقائق فقط على دخولي متحف الكاتب فرانز كافكا في العاصمة التشيكية براغ، أردت أن أهرب من المتحف سريعا، أن أجري بلا عودة إلى هذا المتحف الكئيب المقبض الذي يشبه كتابات صاحبه تماما. حدث ذلك في ديسمبر الماضي، وقلت لنفسي إنني حتما سأزور براغ الجميلة مرة ثانية، لكنني أبدا أبدا لن أقترب من الضفة الأخرى للنهر، حيث يقع متحف كافكا.

وبالأمس، زرت القرية التي ولد فيها الرسام الهولندي العالمي فنسنت فان جوخ، ورأيت بيته من الخارج. هي قرية صغيرة تدعى زوربيرت، تقع على الحدود الهولندية البلجيكية، وعاش فيها فان خوخ طفولته، ورسم فيها لوحاته الأولى، قبل أن ينتقل من بلد إلى بلد، ويعيش حياة قاسية أنتجت فنا عظيما.

تذكرت كافكا أمام بيت فان خوخ.

تذكرت تلك الجدران السوداء في متحفه، والإضاءة التي تقترب من الظلام، والمؤثرات الصوتية المرعبة التي تتكون من خليط من الموسيقى المقبضة ونعيق الغربان وعواء الذئاب. وتذكرت رغبتي في الهرب من كل هذه الكآبة بلا عودة. كنت واعيا بأن مصممي المتحف يريدون لزواره أن يعيشوا الأجواء الكافكاوية السوداوية التي كتبها في قصصه، لكن هذا كان عصيا على احتمالي. وأثناء هروبي، كنت أتأمل الزوار الآخرين المتزاحمين حول أحد خطاباته إلى ميلينا أو واحدة من حبيباته السابقات عليها، أو حول صورة عائلية له، أو خطاب لناشره، أو طبعة أولى من أحد كتبه، فلا شيء في المتحف كله سوى هذه المقتنيات، وألوان الكآبة وموسيقى الرعب. وأدهشني كل هذا الزحام لزيارة متحف مرعب لكاتب كئيب، لكن المدن التي تعي قيمة كتابها وفنانيها تعرف كيف تجعل من سيرتهم مصدر جذب دائم للسائحين، حتى لو كانت تستثمر في سياحة الكآبة.
وأمام بيت فان خوخ تذكرت كافكا.

لسوء الحظ كان البيت مغلقا بسبب العطلة الأسبوعية للعاملين فيه، ولكن هذا لم يمنع أن أرى روح البهجة التي تطبع المكان منذ الدخول إلى القرية، تلك البهجة التي تشع في لوحات فان خوخ، البهجة التي لم يعشها الفنان نفسه في حياته، لكنه اخترعها في لوحاته، كأنها معادل لما يتمنى لحياته أن تكون. كان والد فان خوخ قسا في كنيسة بروتستانتية لا تبعد 10 أمتار عن بيته، وكان يريد لابنه فنسنت أن يصبح قسا مثله، لكن هذا لم يحدث، لحسن حظ البشرية. وفي الساحة المواجهة للكنيسة الساحة التي تحمل اسم فنسنت فان خوخ، هناك تمثالان لرجلين متحدين اتحادا أقرب إلى العناق، يمكنك أن تتبين أن أحدهما هو فنسنت، والآخر هو شقيقه تيو الذي كان يعوله طوال حياته التعيسة سواء في هولندا أو في فرنسا، ويدعمه بالمال من وقت لآخر. تستطيع أن ترى المحبة وهي تشع من تمثال الأخوين، في مقابل الغضب الذي تراه في تمثالين لرجلين يبولان أمام متحف كافكا. كانت حياة فان خوخ أكثر قسوة من حياة كافكا، لكن الأول قدم لنا فنا مبهجا، فيما أنتج لنا الثاني فنا كئيبا مقبضا. وبعيدا عن تلك المفارقة، فإن كليهما أصبح لمدينته أو قريته مصدر دخل مهما، وجزءا لا يتجزأ من صورتها السياحية.

في السنوات الأخيرة، زرت مدنا أوروبية كثيرة، وكانت بيوت كتابها وفنانيها ورساميها على رأس قائمة المزارات السياحية. وفي كل تلك المدن، كنت أرى لافتات على بيوت كثيرة: "هنا عاش فلان"، "هنا ولد فلان"، "هنا نزل فلان ضيفا". وكنت أستمتع بلمس الأبواب التي لمسها فلان وفلان وفلان، والمشي في الشوارع التي مشوا فيها، والجلوس على المقاهي التي شهدت مناقشاتهم وخناقاتهم ولقاءاتهم العاطفية. أقول قولي هذا، وأتمنى أن أعيش إلى اليوم الذي أزور فيه متحفا يحمل اسم نجيب محفوظ، مثلا مثلا يعني.

إعلان