إعلان

العلم.. ودعم صانع القرار

العلم.. ودعم صانع القرار

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:02 م السبت 12 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

يعلم دارسو العلوم السياسية وغيرهم من المهتمين بالشأن العام السؤال المحوري المعنون بـ"كيف يصنع صانعو القرار قرارهم؟".

صناعة القرار هي التي تسبق اتخاذ القرار، حيث يقوم متخذ القرار في معظم دول العالم باتخاذ قراره بناء على بدائل يتم تقديمها له، إما من قبل المستشارين أو الخبراء أو المكتب الفني الذي يتولى دراسة موضوع بعينه بمبادأة منه أو بتكليف من السلطة المختصة، سواء كان رئيساً للبلاد أو وزيرا أو محافظا.

وتلك البدائل يطلق عليها البعض سياسات بديلة، في حين يراها البعض الآخر دراسات، ويطلق عليها البعض سيناريوهات الحل.

وفي الواقع فإن صناعة القرار في أي مجال لا بد أن تتضمن المسميات الثلاثة مجتمعة. فمن الصعب أن تقوم السلطة المختصة باتخاذ قرارا بأقل الخسائر وأدنى درجات المخاطر بدون اللجوء لدراسات وسيناريوهات وسياسات بديلة. بل يمكن القول إن دعم صناعة القرار يتطلب التدرج في المسميات الثلاثة السابقة.

وهذه المسميات يقابلها مصطلحات علمية، وذلك حتى نعتاد على ربط صناعة القرار بالعلم. فالدراسات تسمى بحوثا فنية. والبحوث الفنية لا بد أن تعتمد على بيانات دقيقة محلية وإقليمية وعالمية لنتمكن من إجراء مقارنات مع الدول التي سبقتنا في حل المشكلة أو تناول الموضوع الذي يريد متخذ القرار اتخاذ قرارا بصدده. كما لا بد أن تعتمد البحوث على مراجع، وليس مجرد "ينبغيات"، وذلك لضمان مصداقية الرأي وتحقيق الثقة فيه.

أما ما يُطلق عليه "سيناريوهات" فيراه العلم "نمذجة"modeling وأتذكر أننا عندما كنا بصدد مناقشة رؤية مصر ٢٠٢٠ مع علماء وأساتذة مصريين، وضعنا نماذج لنظم اقتصادية وكيفية تعاملها مع القضايا المجتمعية كالبطالة والتضخم.

فالنمذجة عمل علمي يرتبط بمنهجية علمية، كما يرتبط بالتنبؤ الشرطي أو التنبؤ الاستقرائي، والاهم هو ان عمليات التخطيط تعتمد على النمذجة في العديد من دول العالم بسبب تطور المعرفة العلمية والتقدم التكنولوجي. وهذه المنهجية تحمل بداخلها المنطق العلمي. والمفيد في مفهوم أو مصطلح النمذجة وما يحمله في طياته من علم المستقبل أنه "عمل بيني"، أي أنه لا يعتمد على فرع واحد من العلوم. فعلى سبيل المثال عندما نناقش مشكلة التخلص من القمامة من الأهمية بمكان إلى جانب تحليل رأي وسلوك مسؤولي البيئة والمحليات أن يتم الاهتمام بالجانب السلوكي للمواطنين وأيضاً بعامل المساءلة وتطبيق القانون.

أما ما نسميه بدائل السياسات، فأعدها المرحلة الأخيرة من دراسة موضوع أو مشكلة ما. وفي هذه السياسات يظهر جهد البحث والنمذجة والتنبؤ المستقبلي في شكل مجموعة بدائل من القرارات التي يمكن متخذ القرار أن يجري مفاضلة بينها بناء على أولويات سياسية واجتماعية واقتصادية، وتؤثر فيها أيضاً اعتبارات عالمية، خاصة أن البحوث والنمذجة تقدم تصورات لمسارات عالمية مماثلة تناولت ذات الموضوع أو القضية .

...

ويحضرني في هذا الشأن قضية "إنفلونزا الخنازير" التي تعرضت لها مصر قبل العام ٢٠١١. وقد مثلت تلك المشكلة نموذجا للكيفية التي كان يمكن من خلالها تطوير وتحسين صناعة القرار بالاستناد إلى العلم.

وفي سابقة لم تحدث قبل هذه الأزمة أذاع التليفزيون المصري جلسة جمعت بين الرئيس الأسبق حسني مبارك ورئيس حكومته آنذاك أحمد نظيف ووزراء الصحة والزراعة والبيئة والداخلية وعدد آخر من الوزراء. وقد عكس هذا الاجتماع صعوبة بالغة في اتخاذ قرار متعلق بالخنازير آنذاك. كما عكس ضغط عنصر الوقت وعدم قدرة السلطات المختصة اتخاذ قرار قاطع. وأثناء هذا الاجتماع كان صوت العلم الوحيد هو وزير الصحة الذي أشار إلى أن "الخنزير ناقل للفيروس ولا يحمله" وبالتالي لا يشكل خطرا على صحة المواطنين، ومن ثم لا بد من التركيز على الفيروس وليس حامله. أما وزير البيئة، فقد بدا محرجا، ولم يقدم رأيا، في حين أشار وزير الداخلية آنذاك إلى أنه لن ينتظر لأن صحة المواطنين في خطر ومن ثم يجب قتل الخنازير. وحينئذ تساءل رئيس الوزراء عن القرار الأخير الذي تم الاتفاق عليه، فلم يتلق إجابة قاطعة من الوزراء الحضور، فقرر أن يتخذ هو القرار وأن يقتل الخنازير. مثل هذا النموذج يشير بوضوح إلى الدور المحدود للعلم في صياغة وتوجيه والتأثير على صناعة القرار في مصر.

...

في نفس السياق ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى طغيان المعلومات التي تتدفق على متخذ القرار على البحوث والنماذج وأوراق السياسات. فالبيانات والمعلومات قد لا تكون مفيدة بالدرجة الكافية إن لم يتم توظيفها ضمن منهجية وفي إطار مضمون ما. فما الفائدة التي يمكن أن تعود على متخذ القرار عندما يتم إمداده بمعلومة حول أهمية أن تدخل مصر عصر الذكاء الاصطناعيArtificial Intelligence AI فيتم وضع خطة له للبدء في التعاقد مع شركات لنقل هذه التقنية لمصر، وذلك في غياب تقديم بحوث أو دراسات حول الفوائد والأضرار من هذه الخطوة والنماذج التي تعكس ما يمكن أن نحصله من فوائد أو نواجهه من مشكلات بسبب هذه التطبيقات.

لذلك يصير ربط العلم بصناعة واتخاذ القرار في مصر ضرورة قصوى تجنبنا التردد وفقدان الموارد وتكرار المشكلات من جهة، وتحقق لنا الثقة والمصداقية والاستجابة من قبل المجتمع من جهة أخرى.

وهنا أيضا لا بد من الإشارة إلى أن دور الإعلام على أهميته وقدرته على الوصول لكافة أفراد المجتمع، إلا أنه من الصعب أن ينهض بمفرده كمصدر لصناعة أو اتخاذ قرار.

...

كما لا ينفي ما سبق وجود جهات مصرية تُجري بحوثاً أو تقدم سياسات بديلة، حيث يوجد عدد محدود منها، وإن كان معظمها يركز على القضايا السياسية. ولكن ما نحن في حاجة اليه هو أوسع وأشمل مما هو متاح. ولن يضير صانع ونتخذ القرار أن يكون لديه أكثر من مصدر علمي يساعده في صناعة قراره واتخاذه بشكل علمي وسياسي منضبط.

ومسألة الشروع في إنشاء منصات أو مراكز علمية من هذا النوع والسماح بتعددها وتقوية الموجود منها وتوفير تمويل وطني لها يصب في صالح تقوية صناعة القرار المستند إلى العلم في مصر.

إعلان