إعلان

المطر وأشياء العالم

المطر وأشياء العالم

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 07 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

شمس خافتة دافئة تشغل ثلث مساحة المنضدة تاركة ما تبقى لتسكع الظل، شكل السور المنخفض الذي يصنعه تجاور شجيرات قصيرة تحيط بالامتداد الخارجي للمقهى تضفي شيئا ما بهيًا، فقط مقاعد قليلة يشغلها الجالسون، ما زال الوقت مبكرًا، تلذذ بطعم القهوة، عندما بدأت نثار قطرات المطر ترسم لوحتها على الأرضية قال واثقًا: هذا المكان هو حديقة الناس الذين تألفهم.

عندما يأتي المطر ..

جاء المطر وملأ الشوارع بلمعته وغسل واجهات البيوت فمنحها حياة أخرى، ثم إنه صنع رائحته، رائحة المطر؟! نعم للمطر رائحة قديمة أقل في العمر من تاريخ ميلادك ومقاربة لتاريخ وعيك بالموجودات، هي تحديدًا في عمر قدرتك على وصف الأشياء من الذاكرة، تخصك تمامًا ثم الأهم أنك يمكن أن تدركها ولو أنكرها كثيرون ممن حولك.

يقينا هناك رائحة للمطر يحبها، ويعرفها البعض، كثيرون منهم ربما ما زالوا أطفالاً، وقد وعيتها منذ أدركتها وهي تصاحبك في كل أوان للشتاء، أن تصفها فالأمر يحتاج إلى مزيد من محاولات، يمكن مثلا القول إنها تشبه شرفة تطل على فضاء واسع تحط عليها العصافير كل صباح وتطلق أغنياتها، أو حديقة تمتد مخضرة بالعشب وتمضى حتى تتلاقى الأرض بالسماء، ثم الأهم أن لها رائحة خاصة بكل من يعرفها، مزيجًا من روائح مختلطة، تضم شيئًا من طفولتك وبعض الأغنيات.

يحتاج كل منا في الشتاء إلى رائحة المطر التي يعرفها، حين يأتي الشتاء ولا يأتي المطر أو يتمهل أو يحتجب يعتقد هو دون أن يقرأ ذلك أن علم الفسيولوجي سيقول إن الإنسان يفقد كثيرًا من طاقته وبهجته حتى تبادره رائحة المطر، ويضيف كما يتصور أنها تمنح الأرض لحظات بدايتها الأولى، فتعيد ربط وجودها الفلكي بالكواكب الناعسة في المجرة الكبيرة، تلك الكواكب التي لم تكتشفها التليسكوبات العملاقة ولم تصلها السفائن ذات البشر، ربما هكذا قال عالم ما كما أظن، وطبعا لا أتذكر أين، والدليل! لا دليل سوى ذلك الإحساس في داخلك مستقرا واثقا، نعم الإحساس الذى يصنع روح البشر ويميز بينهم أيضا، ويصنع تاريخ الأحوال في الدفاتر البشرية.

قبلها أمضى وقتا مطولا يبحث عن رائحة يحبها، رائحة المطر، مضى متيقنا في وجودها في مكان ما، وأنها لا شك ستفاجئه عبر رسالة معطرة في الصباح المبكر، رسالة من غيمة مثلا، ضحك مستبعدا ذلك الاحتمال، من الندى المتلألئ على أوراق شجرة مجاورة، أليس هو مطر في الأصل؟ وفقط لم يتأنَ ليتتابع مطرًا، أو ربما تكون هناك داخل زرقة السماء التي تطل على كامل البحر، أو يمكن أن تكون هي كل تلك الأشجار في الحدائق تنتظر، وربما صارت ظلا يمنح المسافرين المتعبين شيئا من الود المجاني، لكنها تظل موجودة هناك، تلوح مثلما النسائم التي تحمل رائحة من نحب.

يوم جديد ..

كيف تعرفون تغير الأيام يا أهل تلك المدينة؟ كان يطلق السؤال كلما هم ملول بإزاحة الستارة الداكنة الثقيلة التي تغطى كل مساحة الشباك، ليعرف أنه لا جديد، ما زال لون السماء غائما، متى تشرق الشمس هنا؟، يتواصل الجو على هذا النحو ليس نهارا تماما ولا مساء تماما، فقط بين بين، ضوء يشبه ما قبل الغروب يحتل كل مساحة الليل ويمضي معه.

يقولون إن ذلك الانطباع الأول يظل جاثما ويبقى، يعتبر الآن ذلك مطلقات أنهاها ما حدث وعرفه بعد ذلك، كان ذلك التليفون في الثامنة صباحًا، حين أخذ يعلو في نغم متصاعد، وعندما أجاب صار من يومها يعرف معنى أن يبدأ يومًا جديدًا، لن يكون له صلة بتغير لون السماء، ولا بأرقام أيام الشهر عبر تقويمات الساعات تعلن مرور الأيام، فقط إحساس ما، مؤكدا لنفسه أن هذا هو التعريف الجدير بيوم جديد آخر.

يستقبله المقهى الصغير في الشارع الجانبي، عدد محدود من مقاعد تتناثر في فوضى لا ينقصها انتظام تكتشفه الحواس فيبهج العين، ثم فنجان القهوة الثقيلة والذى لا يغادر مذاقه الفم، ثم فنجان آخر، من أين يبدأ الكلام ؟ يظهر السؤال عصفورًا يتقافز دون جهد كبير، لا يمضي وقت طويل حتى يمضي الحوار أنيقًا، ثم السير في تلك الشوارع الصاعدة الضيقة التي تحتفى بشرفات أثرية تزينها الزهور وتقبع أسفلها محلات الفاكهة والمقاهي الصغيرة التي تفتح بابها بلافتة تحية ملونة بطباشير أبيض على أرضية رمادية، كان كل شيء يصنع – رغم برودة الجو الظاهرة – دفء الأمكنة.

إعلان