إعلان

 أمراض المثقفين

د. أحمد عمر

أمراض المثقفين

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 16 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

"إلى الأجيال الجديدة: تذكروا أن الإنسان تاريخ وموقف، فلا سرَّ يخفى، ولا شهادةَ تموت".

بهذا الإهداء افتتح الراحل الأستاذ سليمان فياض كتابه "نبلاء وأوباش" الذي خصصه للحديث عن المثقفين والكُتاب، "النبلاء منهم والأوباش، الشرفاء منهم والسفلة، من آثروا العلو والارتفاع ومن آثروا الانخفاض والتسفل، من ترفعوا عن الصغائر، ويعيشون ويموتون بين المساكين، ومن يعيشون مثل سفلة الشجر والنبات، مثل النمنم الأبيض على الُظفر، ورقط الجرب يتفشى في جسد البعير".

ورغم أن الكاتب الراحل سليمان فياض لم يُحدد أسماء من تحدث عنهم، فالقارئ المُطلع على الوسط الثقافي في مصر والعالم العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قد استنتج بسهولة من هم النبلاء، ومن هم الأوباش.

كما تجسد أمامه بوضوح نموذجان لأوباش الكتاب والمثقفين، هما نموذج المثقف الفهلوي الذي يلعب بالبيضة والحجر، باحثًا عن تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والشخصية. ونموذج المثقف المسخ الذي يتمادى في الانحطاط وبيع الذات والدور والمعرفة، باحثًا عن الثراء والسلطة، فيسلك سلوك الغواني، ويخلع باستمرار قناعاته الفكرية والسياسية حسب كل مرحلة، ولصالح من يدفع أكثر.

وانطلاقا مما كتبه بجرأة وشجاعة فائقة الراحل سليمان فياض، أنتقل للحديث عن أبرز أمراض المثقفين، وأعني بها الأوهام والتصورات التي تسيطر على عقل بعضهم، والسلوكيات المشينة التي يمارسونها، وتؤثر بدورها بشكل سلبي على صورتهم وحضورهم ودورهم في مجتمعهم، ومن أهمها وأكثرها شيوعًا، من وجهة نظري، ما يلي:

النرجسية المفرطة: ومعها ينطوي المثقف على نفسه، ليستشعر متعته وقوته في تأمله لذاته واكتفائه بها، وعدم انفتاحه على الآخرين.

وإذا خرج للناس وتواصل معهم نجده يتحدث عن ذاته ومواهبه وإمكاناته وأمجاده.

وهذا المرض يُجسد خطيئة سلوكية كبيرة تمنع المثقف من أن يكون قريبًا من حياة الناس وفعالًا في سياقه ومجتمعه.

أوهام النخبوية: ويظهر هذا المرض عندما يخطئ المثقف في تقدير ذاته وأهميتها، فيتصور نفسه عقلية إبداعية وفكرية لا مثيل لها، ومع ذلك لم يأخذ حقه من الرعاية الرسمية والاهتمام من الجماهير، ولم يعطَ الفرصة لإبراز مواهبه؛ ولذلك فهو موهبة مُهدرة كان يمكن أن تقود السلطة والمجتمع إلى آفاق جديدة من العمل والتقدم، لو أخذ فرصته في القيادة.

الرومانسية الثورية: ويمكن أن نُطلق على هذا المرض أيضًا اسم "حالة الطفولة اليسارية". ومن أعراض هذا المرض، الانفصال عن الواقع، والسعي لتحقيق تغيير ثوري يقلب الأوضاع رأسا على عقب، دون الانتباه لخصوصية اللحظة التاريخية، وطبيعة ومتغيرات العصر، ومقتضيات الواقع وموازين القوى فيه.

الازدواجية بين القول والفعل: وهو أكثر أمراض المثقفين شيوعًا، لأن أغلب المثقفين في بلادنا لديهم ازدواجية بغيضة بين ما يكتبونه وما يحيونه ويمارسونه في الواقع؛ فهم يقولون ما لا يفعلون، ويدعون الناس إلى ما لا يؤمنون به حقًا، ويريدون أن يجعلوا من الثقافة أداة لتغيير كل الناس إلا أنفسهم.

فقدان الحس النقدي: وهو مرض معرفي في غاية الخطورة، يناقض جوهر وجود ودور المثقف؛ لأن المثقف بالأساس ناقد باستمرار لذاته وللفكر والسلطة والمجتمع. ناقد يؤمن بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، ولهذا فعندما تستلبه أفكاره الخاصة أو أفكار الأيدلوجيا أو المؤسسة التي ينتمي إليها، ويفقد حسه النقدي، يتحول من مثقف ناقد إلى إنسان عقائدي رجعي متصلب الفكر.

في النهاية، تلك أبرز أمراض المثقفين شيوعًا، وهي تؤثر في مصداقيتهم، وتفقدهم احترام المجتمع والسلطة، وتقلل من فاعليتهم، وتجعل وجودهم كعدمه. 

فليتنا نتأمل، ونتعلم حتى لا يصدق في المثقفين وصف الأديب السوري حيدر حيدر في روايتة "الزمن المُوحش"، قوله: "إن المثقفين في البلدان المتخلفة يعيشون عالة على المجتمع: حفنة ثرثارة تتحدث في النظري، بعيدًا عن واقع وآلام الناس. القراءات الضحلة حولتهم إلى ممثلين كاريكاتوريين وأدعياء يرون العالم من أعلى".

 

 

 

 

إعلان