إعلان

"أن تعيش فتقرأ؟"

عمار علي حسن

"أن تعيش فتقرأ؟"

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 12 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

أتى علينا زمن يكتب فيه أناس أضعافا مضاعفة لما يقرؤون، ويتيهون بامتناعهم عن القراءة أو ضآلتها على ما عداهم من الكُتَّاب، متوهمين أن البديهة وحدها، أو الموهبة منفردة، بوسعها أن تكون كافية شافية كي تصنع كاتبا يدوم.

أفهم أن تعطي الفطرة السليمة، والقريحة المتوقدة، والذاكرة الطازجة، شخصا يمسك بالقلم، فرصة هائلة كي يكتب نصا فريدا، سردا كان أو شعرا، أدبا أو فكرا، يضع فيه كل انفعالاته ومواجيده وانشغالاته وتصوراته وخبراته الذاتية، لكن إمكانية تحول هذا الشخص إلى كاتب صاحب مشروع، بصرف النظر عن النوع الذي يكتبه، تتطلب حيازة معرفة، لا يسلم بها، ويستسلم لها، ويعمل ويعمد إلى تكرارها وترديدها أو اجترارها، إنما يقوم بإمعان النظر فيها، يتأملها على مهل، وينقدها، ويضيف إليها، ويتجنب مزالقها، ويستر عوراتها، ويسد فراغاتها، فيفتح أمامها بابا واسعا للنمو والتكاثر والانتشار.

والقراءة المتواصلة المتأصلة تجعل الكاتب قادرا على تقييم ما ينتجه من خلال وضعه في مضاهاة مع ما ينتجه غيره، فبضدها تتميز الأشياء، ثم قياسه على ما خلفه السابقون على درب الكتابة، ليس لتقليدهم، أو اتباع خطاهم دون زحزحة يمنة أو يسرة، إنما لتوسيع هذا الدرب، وترسيخه، حتى تتقدم الكتابة دوما نحو اجتياز حواجز، وارتياد مناطق مجهولة، وانطلاق إلى آفاق رحبة.

لكن ليست كل قراءة تؤدي بالضرورة عند جميع البشر هذه الوظيفة، فأغلب القراء ليسوا بكتاب، ولو تساوى الطرفان عددا لصرنا أمام مشكلة عويصة، إذ لا يمكن لحياة ثقافية أن تمضي قوية عفية في ظل ندرة في القراء، ووفرة في الكُتَّاب، لا سيما إن كان أغلب من يطلقون على أنفسهم كتابا لا يلبون الحد الأدنى من الشروط المتعارف عليها، كي يحملوا هذه الصفة، التي أراها، بحق، عظيمة نبيلة.

وكل كاتب يقصد بالأساس أولئك القراء الذين يطالعون الكتب، بحثا عن متعة وفائدة، ويهيم أكثر بأولئك الذين يدمنون القراءة، فإن مر يوم دونها يحسبه هؤلاء أنه قد ذهب سدى، وإن أتى الليل وعيونهم لم تصافح كتابا، جافاها النوم، أو نامت مع لوم شديد للنفس، ووعد بالتعويض في الغد، ولا انفكاك إلا بفعل هذا، ليخبو التوتر، وتهدأ الخواطر، وتسكن الأنفس المتعطشة للمعرفة والعلم.

هذا الصنف من القراء يتراجع في حياتنا بشكل مخيف، لأسباب عدة، على رأسها نظام تعليمي لا يصنع شغفا بالقراءة في نفوس أبنائنا، وعائلو أسر من أمهات وآباء، لا تحتل القراءة موقعا متقدما في اهتمامهم حين يجلسون ليلا أو نهارا يرتبون طرق تربية ذويهم، وكذلك قيم عميقة تتراجع في معاشنا، بشكل عام، كالصبر والدأب والتأمل والتفتح، لا سيما عند أجيال جديدة، وكلها قيم تعوزها القراءة، مثلما يعوزها تحسين شروط الحياة.

لكن لا تزال هناك استثناءات، وإلا بارت الكتب، وأحبط الكُتَّاب تماما، فجفت أقلامهم، وكسلت قرائحهم، فهاموا في الشوارع يضربهم الجنون، أو تجاسروا على جوعهم للكتابة وانصرفوا للبحث عن مهن أخرى، وهي، ومهما ارتقت في مراتبها الاجتماعية وارتفع ما تغله من مال، لن تشفي غليلهم، وليس بوسعها أن تغنيهم أبدا عن الكتابة، حتى لو ابتعدت الشقة بينهم وبينها إلى أقصى الأرض.

يعد "إبراهيم عادل" وهو كاتب بديع لكنه يقدم نفسه دوما على أنه قارئ نهم، مثلا ناصعا على هذا الاستثناء، وهو مثل عميق لديه إلى درجة أن دفعه لنشر كتاب بعنوان "أن تعيش فتقرأ"، في تناص مع كتاب ماركيز "أن تعيش لتروي"، لكنه استبدل "ما يروى" بوصفه كتابة، بما "يطالع" باعتباره قراءة، ومن لهفه لم يترك "لام التعليل" على حالها، إنما وضع مكانها "فاء السرعة"، فإن كان ماركيز يحتاج إلى ما يبرهن به على سبب عيشه، فإن إبراهيم، لا وقت لديه لبرهنة أو تقديم حجة في هذا الاتجاه، إذ تسارع القراءة حتى تقتحم حياته، ولا تترك له وقتا ليسأل نفسه: لماذا أقرأ؟

ويوجه الكاتب/ القارئ كتابه هذا إلى صديقة، تشاركه الشغف بالقراءة، فيأتي في صيغة رسالة طويلة متدفقة، لا تقطعها العناوين المتتابعة، ولا اللجوء إلى اقتباسات واقتطافات، من هنا وهناك، ولا يعطبها التمهل قليلا من أجل التأمل في كل ما قرأه، ومشاكسته، ومساءلته، وتقليبه على وجوه عدة، وهو يغوص من المظاهر إلى الجواهر، ومن القشور إلى اللباب.

إن القراءة هنا، بالنسبة لصحابها، هي طريقة عيش، لا غنى عنها، ولا تصور لمفارقتها يوما، بل هي داء مقيم، ليس بوسع من حل بجسده أن يخفف من الألم الذي يسببه سوى بالنظر الطويل في سطور الكتب، وهنا يقول: "لكل منا طريقته التي يرتضي العيش بها، وأنا لا أعلم من غرس فيَّ تحديدا هذا الداء حتى استشرى، واستفحل أمره. كنت أود لو أن فعلا كالقراءة يكافؤون الناس عليه، ويقيمون له مهرجانات حقيقية لا صورية، لكنت حزت مراكز متقدمة ولا شك".

لكن ليس كل القراء سواء، حتى لو تشابه شغفهم بالقراءة أو تطابق، لأن الكتب ليست سواء، لا سيما في زمن تقذف فيها المطابع الكثير من الغث، والقليل من السمين، ويغلب فيه الأدعياء الأولياء، وتصعد الشعبوية في عالم الثقافة، مثلما صعدت في عوالم أخرى، منتقلة من الأطراف إلى القلب، ومن الهامش إلى المتن. وأدى هذا بالتبعية إلى خلق طلب كبير على الكتب العابرة والعارضة والسطحية والمتعجلة، التي تلبي احتياجات جمهور يسعى وراء ما يسليه، ويثير غرائزه، ويخاطبه على قدر عقله، الذي له حظ ضئيل من المعرفة، أو يواكب إيقاع زمن سريع، وحياة متقلبة، تتدفق بلا هوادة، قاطعة الأمكنة والأزمنة في يسر، وبلا حدود.

والآفة أن كثيرا من الناشرين ناداهم هذا الجمهور بهمس خفي، أو بصوت جهور، فاستجابوا له طائعين تجارًا مخلصين للربح قبل الرسالة، بل إنهم شاركوا قطاعا منه إفكا متأصلا يتحدث طيلة الوقت عن "الأكثر مبيعا" ولا يريد أن يتوقف عند "الأقوى تأثيرا" و"الأقدر بقاء"، حتى لو استعنا عليهم بالآية الكريمة: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ".

مثل هذا الجمهور سيقف متعجبا من قول إبراهيم في كتابه الصادر عن "دار أجيال": "درنا في حيرة، هل نبدأ بالأساتذة الكبار القدماء والجاهليين، ومن تبعهم بإحسان، أم من تلاهم من عصور حتى نصل إلى العصر الحديث، أن يستقر بنا المقام والمطاف إلى معاصرينا، هؤلاء الذين يتقافزون أو تتقافز كتاباتهم أمامنا كالبهلوانات"، فالجمهور الذي أعنيه هنا، لا يعرف من هؤلاء "الكبار"، ولا يعطي نفسه فرصة للبحث عنهم، وبعضه ينساق وراء العبارة المصكوكة منذ زمن "جيل بلا أساتذة"، وبعضه تبدو لغة القدماء مستغلقة على فهمه، فيجري منها كما يجري السليم من الأجرب.

وحتى القارئ الجاد، الساعي وراء الراسخ والعميق والمقيم، لن يكون بوسعه أن يقرأ كل شيء مكتوبا بلغتنا العربية أو مترجما عن لغات أخرى، سواء كان مطبوعا أو إلكترونيا، وهي مسألة أثارت تساؤل إبراهيم: "لا أعلم كيف يتسنى لنا أن نفرح بكتب وكتابة جديدة وأمامنا هذه الأعداد المهولة من الكتب والكتاب، لم نستكشفها، ولم نعرفها بعد؟!"، وهو هنا يعبر عن قراء، بل كتاب، كثيرا ما يبوحون لنا بأنهم يقفون حائرين بالفعل أمام أرفف مكتباتهم العامرة، لا يعرفون بأي كتاب يبدأون الآن، ومتى ستنتهي بهم القراءة، وكيف أنهم يحتاجون إلى أعمار فوق أعمارهم حتى يقرؤون كل الذي يروق لهم، إن تغلبوا عن مطاردة ما تعرضه أمامهم وسائط التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت من مقولات ونقولات وصور ورسوم، أذابت الكثير من التخوم التاريخية بين منتج المعرفة وناقلها.

إن صاحب هذا الكتاب، وهو أيضا قاص وناقد، يقدم لنا مثلا مبهرا عن قارئ مخلص، يسعى دوما وراء كل ثمين وسمين ونفيس، مؤمنا بأن حياته لا يمكن لها أن تستقر وتستقيم من غير صبر وجلد ودأب وشغف بالكتب، في مجتمع بات في أمس الحاجة إلى تعميم مثل هذه الحالة، أو اندياح ذلك النموذج، حتى يخرج من ضيق الآني إلى براح الآتي.

إعلان