إعلان

الدين والسلطة: المبدأ والمقصلة "3- 3"

الدين والسلطة: المبدأ والمقصلة "3- 3"

محمد حسن الألفي
09:00 م الثلاثاء 20 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

لم يحدث أن نسيت أبدًا تعبير رجل لكل العصور، وهو ترجمة عن الفيلم الذي يحمل الاسم ذاته A man for all seasons الذي يروي قصة السير توماس مور، المحامي والقاضي ورجل الدين ورجل السياسة المعاصر، لفترة حكم الملك الإنجليزي الشهواني الطاغية، هنري الثامن.

شاهدت الفيلم وقتها في مدرج 78 الشهير بكلية الآداب جامعة القاهرة، حيث دأبت اللجان الثقافية على عرض أحدث الأفلام العربية والعالمية، مثل (قصة الحي الغربي، وإنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟ وأغنية على الممر لعلي عبدالخالق) وغيرها.. المهم أن قصة الفيلم شحَبت مع الأيام وبقي التعبير دلالة على الثبات على المبدأ وعدم التحول، والولاء المطلق الذي لا يتزحزح عن عقيدة أو فكرة. مع السنين والأيام صار التعبير بقدرة منافقين عظام يعنى مهارة استثنائية في التلون والتدحرج، عبر عصور متباينة الأفكار، فبذلك يصبح الرجل مناسبًا لكل العصور.. يبيع بضاعته لكل حاكم.

والسير توماس مور كان الصديق الوفي لأول داعشي إنجليزي في ظني، هنري الثامن، باعتباره أول من وظف الدين لخدمة شهوته للزواج ممن وصفها بالعاهرة لاحقا، آن بولين، منتصف القرن السادس عشر .

انسلخ هنري الثامن عن كنيسة روما الأم وناطح البابا، ونصّب نفسه رئيسًا لكنيسة إنجلترا، وطلب من القساوسة ومن كبيرهم لديه، توماس مور، التوقيع على وثيقة بأنه لا يعترض على زواج الملك من آن بولين التي سحرته بفنون العشق والشهوة، ومن يرفض فهو خائن، والعقوبة قطع الرأس.

كان توماس مور يرى أنه ليس من حق الملك الزواج ما لم يحصل على موافقة بالطلاق من كنيسة روما. الأخيرة كانت ترى زواجه من كاثرين صحيحًا وشرعيًا، ولا مبرر للتطليق.

جن جنون الطاغية، ونشط رجاله في طلب توقيعات القساوسة وإلا فالخيانة هي التهمة والإعدام هو العقوبة.

كثير من رجال البلاط والكنيسة الإنجليزية وقعوا على وثيقة عدم الاعتراض، وقالوا له ذلك ليشجعوه على إبقاء على حياته، لكن توماس مور قال إنه لن يوقع، ولن يعارض أيضا بشكل علني أو سري زواج الملك صديقه الأثير.

عقدت محاكمة لتوماس مور بتهمة الخيانة ومعارضة الملك .طلب إليه الملك أن يعلن موافقته على الزواج من عشيقته، لكنه رفض، وطلب إليه زملاؤه التوقيع شكليا، وما في القلب في القلب، لكنه رفض، توسلت إليه زوجته وابنته وزوج ابنته، لكنه رفض. سحب الملك بيوتهم وأراضيهم وامتيازاتهم.. وأفقرهم، وشردهم لكنه رفض !

وفي النهاية قُطع رأسه بالمقصلة في ساحة برج لندن الدامي، وقبل أن تهوى البلطة المسنونة البارقة على عنقه طلب الجلاد من مور أن يسامحه، فسامحه، بل كافأ جلاده بقطعة نقدية.

تألم الملك هنري ألمًا شديدًا وبكى صديقه، لكنه لم يرحمه .

كنت أتابع القصة والمشاهد من خلال مسلسل بريطاني تاريخي مبهر هو The tudors تساءلت حقا عن ضرورة الموقف الجامد المتحجر الذي اتخذه رجل سيقطع رأسه، وتشرد أسرته، وهو مُبقٍ على ولائه للكنيسة الكاثوليكية البابوية في روما التي لم يكن البابا فيها وقتها منزهًا أو بلا خطايا !

كان ممكنا أن يوقع على وثيقة عدم الاعتراض، ويحتفظ برأيه وفكره، وأن يترك عقاب الملك للسماء، أصابه الزهري لاحقا ومات به !

كلمة واحدة كانت ستنقذه وتحفظ أسرته.. لكنه اختار ما اعتبره الإخلاص.

هل هذا، الآن، غباء؟

هل هذا، الآن، عناد لا مبرر له؟

هل يمكنك أن تضحي بأولادك وحياتك وأموالك في مواجهة سلطة غاشمة، وليس عليك إلا أن تجاريها؟

وقت مشاهدة توسلات زوجته وأولاده أن يوقع بعدم الاعتراض وجدتني أناشد بدوري أن يوقع وأن يكف عن الغباء !

الحقيقة أني رأيت الموقف هكذا.. قضية عصية معقدة.. وجد كثير من المعاصرين في الوسط الديني العربي والمصري وفي غير الديني حلًا سحريًا هو.. التقية.. وما في القلب في القلب حتى تحين الفرصة، وتعلن السرائر، وترفع السيوف !

رجل لكل العصور.. غبي أو منافق لكل العصور.. تلك هي المشكلة.

إعلان