إعلان

البطل الحضاري الغائب

البطل الحضاري الغائب

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 28 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

إن أهم ما يُميز المجتمعات التي خرجت من طور التخلف إلى طور التقدم وبناء الدولة الحديثة، أنها تجاوزت مرحلة عدم الاستقرار ومراجعة جميع الثوابت والمسلمات الفكرية والمجتمعية والسياسية، ووضعت صيغاً فكرية وعقلانية جديدة تحدد علاقتها بماضيها وتراثها القديم وحاضرها ومستقبلها.

وفى هذا الصدد، يذكر الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة الشهير، ثلاثة نماذج حضارية للتعامل مع التراث القديم، اثنان منها قد تحققا بالفعل في الغرب والشرق الأقصى، ونموذج ثالث يأمل أن نحققه في عالمنا العربي والإسلامي.

النموذج الأول هو نموذج الانقطاع الذى وُجد في الغرب المسيحي؛ فالعالم الغربي قد انقطع عن معظم تراثه القديم، واعتقد أنه بالقدر الذى يتجاوز فيه رواسب ماضيه بقدر ما يتقدم؛ فرفض في عصر النهضة الأوروبية سلطة البابا والكنيسة، وتدخلهما في شؤون السياسة والفكر، ورفض الكثير من تصورات الفلاسفة والعلماء القدماء، وقال بشكل حاسم: لا صلة للماضي بالحاضر الذى نعيش فيه، والمستقبل الذى نريد صنعه.

النموذج الثاني هو نموذج التجاور الذى وُجد في الشرق الأقصى، وخاصة اليابان والصين؛ فالإنسان الياباني والصيني في عمله وحياته المهنية والعلمية، أوروبي التفكير وعالم عقلاني صرف، ولكنه في حياته الأسرية والعائلية الخاصة، وفى حياته الدينية، يمارس الكثير من الطقوس المتوارثة التي تتسم باللاعقلانية، دون أن يجد تناقضًا بين حياته الأولى وحياته الثانية.

أما النموذج الثالث الذى يأمل الدكتور حسن حنفي أن نحققه في العالم العربي والإسلامي، فهو نموذج التواصل.

ويهدف هذا النموذج إلى إخراج الحاضر من رحم الماضي، وتوليد الجديد من باطن القديم، حتى نحافظ على وحدة الهوية والشخصية الحضارية، ولكى يصبح الإنسان العربي المسلم الجديد مواطنًا عصريا يجمع في حياته وفكره وعمله بين الأصالة والمعاصرة.

ولهذا يؤكد الدكتور حسن حنفي على أن أي مشروع تنويري وحداثي عربي وإسلامي لا يستند إلى قراءة ونقد وإعادة بناء تراثنا القديم، والتمييز فيه بين ما يصلح لعصرنا وما لا يصلح لنا، وبين الثابت فيه والمتحول، هو مشروع تنويري محكوم عليه بالفشل والرفض من الناس والواقع.

إذن، فإن التعامل النقدي مع التراث القديم هو مواجهة فكرية تأسيسية متعددة الأبعاد، تفتح الباب لمعركة فكرية شرسة تحتاج إلى مقاتلين أصلاء لديهم الاستعداد لخوض صراع صعب مع كهنة هذا التراث الذين يعملون وفقِا لقاعدة "أن الأمر هكذا، لأنه هكذا قيل، وأن هذا ما قال به مشايخنا وعلماؤنا لا يجوز نقده ومراجعته"؛ فيضفون بذلك قداسة زائفة على نصوص وأفكار لا تستحق التقديس؛ لأنها ليست وحيًا إلهيًا، بل اجتهادًا بشريًا لرجال مثلنا.

فالتراث كما تعلمنا هو "كل قديم موروث، سواء كان وحيًا سماويًا أو اجتهادًا بشريًا".

ومشكلتنا الفكرية المتأصلة أن معظمنا لا يفرق بين الوحى السماوي المقدس الذى لا سبيل لوضعه موضع التساؤل والنقد، وبين الفكر الديني الذى هو اجتهاد بشرى خالص، أبدعه رجال مثلنا لتفسير هذا الوحي السماوي.

وتأسيسًا على هذا التمييز، يحق لنا أن نغربل هذا الاجتهاد البشرى القديم، ونقتله بحثًا- كما كان يقول الشيخ الراحل أمين الخولي- لنفرق بين الغث والثمين فيه، بين ما يصلح لنا، ويمكن أن نستفيد منه ونبنى عليه، وما لا يصلح لنا، لأنه نشأ في عصر غير عصرنا، وقدم أجوبة على أسئلة لم تعد مطروحة اليوم بيننا.

وبهذا نكون أوفياء حقًا لتراثنا وأجدادنا، فنجتهد مثلما اجتهدوا، ونبدع فكرنا الخاص الملائم لعصرنا، مثلما فعلوا في عصرهم؛ لأن الإخلاص الحقيقي للأجداد لا يكون بنقل الرماد من موقدهم، بل بنقل الجمرة والشعلة المتوقدة.

واعتقد أن من يتصدى لنزع القداسة الزائفة عن الكثير مما هو موجود في تراثنا القديم، ويفرق فيه بين ما نحتاج إليه في عصرنا، وما لا يصلح لنا اليوم، ويسعى في ذات الوقت لإبداع فكره الجديد الملائم لعصره ومشكلاته وتحدياته- سوف يصبح "بطل التراث" الذى تكلم عنه الباحث الأمريكي جوزيف كامبل في كتابه "سلطان الأسطورة"، وقصد به البطل الحضاري الذى يُعيد تفسير التراث ليجعله صالحاً كتجربة حية اليوم، بدلًا من أن يظل مجموعة من الصيغ الفكرية واللفظية التقليدية التي تجاوزها الزمان، وأصبحت عديمة الفائدة.

إعلان