إعلان

المصري الأصيل والجيل الجديد

أمينة خيري

المصري الأصيل والجيل الجديد

أمينة خيري
09:00 م الإثنين 22 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

جيلٌ وربما أكثر لا يعرف شيئًا عما يفترض أن يكون. جيلٌ وأكثر يعتقد أن الطريقة التي نعيش ونتصرف ونتعامل بها هي القاعدة المتعارف عليها والمقبولة من قبل المجتمعات البشرية. جيلٌ وأكثر يتصور أن الأصل في التعامل هو العنف المعنوي، والمعتاد في التواصل هو الفظاظة والخشونة. يخيل إليه أن الاستيقاظ من النوم والاستعداد لنزول الشارع لا يعني سوى الصراع من أجل البقاء. يتوهم أن الفوضى غير الخلاقة الدائرة رحاها في الشارع سمة من سمات الطبيعة. يحسب أن الدنيا لم تُخلق لشيء إلا للصراع، وأن العمر كُتِب ليكون سنوات من الاحتقان والاحتكاك والاشتعال. غالبية الأفعال المسيطرة على حياتهم لا تخرج عن إطار الخيال والظن والوهم والاعتقاد.

اعتقد الشاب العشريني أن عبارة "المصري الأصيل" تعود على جيله. وشجبه زميله لأنه قصد بالعبارة جيل الكبار ممن ينتمون إلى العقد الخامس من العمر ويزيد. هكذا يسمع من أبويه وأخواله وأعمامه. "المصري الأصيل" هو ما كان ولم يعد موجودًا. لكن الطريف أن كليهما لا يعرف شيئًا عما كان سائدًا في مصر، ربما حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي.

قرون طويلة ومصر مثقلة بمشكلات وهموم، لكنها أبدًا لم تكن تئن تحت وطأة عشوائية أخلاقية وفوضى مجتمعية وهلهلة معيشية وسلوكية، كما هي عليه في السنوات السبع الماضية. والسنوات السبعة ليست إشارة إلى آثار عكسية لما بعد الثورة، أو حتى إسقاطًا سياسيًا يلمح إلى النيل منها، لكنها توصيف عقلاني لما عصف ببر مصر على مدار عقود وصل أقصاه وبلغ ذروته منذ تم رفع غطاء البالوعة.

بالوعة الفكر والسلوك التي تعصف بحياتنا، وتنغص على إنسانيتنا وتجعل من حياتنا اليومية همًا ثقيلاً، لا لضيق ذات اليد أو شح محتوى الجيب بقدر ما هو ضيق ذات السلوك وشح محتوى الأخلاق، هي نتاج انهيار شبه كامل تُرِك يرتع فينا. فبدءًا بتحلل تعليمي حول المدارس أبنية دون روح، وتهتك ديني جعل العقيدة حجابًا ونقابًا وجلبابًا ولحية و"جزاك الله خيرًا" أو ثكلتك أمك" مع تفريغ شبه كامل لمكون المعاملات والسلوكيات، وتفسخ تربوي، حيث انشغلت الطبقات "اللي تحت" بالإنجاب دون حساب بإيعاز من مشايخ الغبرة والبحث عن الموبايل والدش والباقة، فيما انغمست الطبقات "اللي فوق" ومعها الحائرة المتأرجحة في منتصف الهرم في التصارع والتسارع من أجل رفع مستوى المعيشة واللحاق بمتطلبات العولمة المجنونة.

جنون الشارع المتبدي في الآلاف من سائقي السيارات الذين يعتقدون أن قيادة مركبة تعني إلحاق أكبر ضرر مادي ونفسي ممكن بأكبر عدد متاح من السيارات، والذين لم يسمعوا من قبل عن اختراع اسمه قواعد وقوانين المرور، والواضح عبر إيمان راسخ بأن إلقاء القمامة في الشارع هو حق أصيل وتصرف بليغ، والمتجلي في اعتبار الصراخ عبر الميكرفونات والاستماع إلى الموسيقى والأهازيج والخطب الدينية بعلو الصوت- حرية شخصية لا يجوز لأحد الاعتراض عليها وغيرها من تفاصيل حياتنا اليومية تعتبره الأجيال الجديدة حياة عادية.

الحياة العادية التي تعيشها شعوب دول أخرى تختلف تمامًا عما نعيشه. والحقيقة أن التشعلق بتلابيب الفقر والعوز والتعامل معهما باعتبارهما حجة القذارة وقلة الذوق والعنف والبجاحة والأنانية- إنما هي شعلقة مقيتة.

وكم من دول أخرى لا تختلف عنا كثيرًا في حجم الفقر أو عمق العوز، لكنها لم تتدنَّ إلى منحدر السلوك الرخو والأخلاق المنفرة الذي تمكّن منا.

ومن منا لا يلقي اللوم على ما نحن فيه من فوضى سلوكية عارمة على "الحكومة"، وتحديدًا الشرطة باعتبارها الأداة الأكثر مباشرة والأعتى ظهورًا فيما يختص بتطبيق القانون.

وحتى لا نحمل الأمور فوق ما تحتمل، فإن "الحكومة" التي تسير عكس الاتجاه بسيارة الحكومة، أو تسهم في إلقاء القمامة مع بقية الشعب، أو لا ترى قبحًا في شيخ يصرخ في مكبرات الصوت أو صبية يستمعون للأستاذين الفاضلين أوكا وأورتيجا بصوت يرج المكان- هي أيضًا جزء من هذا الجيل الذي لم يرَ، أو رأى، ونسي ما كانت عليه مصر قبل سنوات قليلة مضت.

وسواء كانت سنوات الرئيس الأسبق مبارك متهمة بالإهمال أو المد المتأسلم القادم عبر الحدود، أو الانفتاح الفجائي دون تخطيط، أو التعليم الحديث منزوع المكون التربوي أو بها جميعا، فيبقى السؤال قائمًا:

لقد كبرت الأجيال التي تعتقد أن المسخ الذين نعيشه سلوك عادي، وأن العشوائية التي تتمكن منا أمرٌ لا يستحق عناء التفكير والتدبير، وبات منهم مسؤولون وضباط ومعلمون ومهندسون وأطباء.. فماذا نحن فاعلون؟!

إعلان