إعلان

جمال الغيطاني ومعاركه الثقافية

جمال الغيطاني ومعاركه الثقافية

د. أحمد عبدالعال عمر
09:01 م الأحد 21 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

"لا لما عليه اليوم المثقفون المصريون والعرب.. لا للعور الثقافي والفساد الثقافي.. لا لخلق معارك هامشية تبدد الوقت والجهد. الآن يجب أن نحارب جميعًا في خندق واحد، هو الخندق الأخير الذي يحافظ على وجودنا (خندق الثقافة).

الآن معركتنا المشتركة يجب أن تكون معركة الدفاع عن اللغة والوجدان والذاكرة.

قضية فلسطين في أصلها قضية ذاكرة؛ فاليهود جاءوا من أقاصي الأرض وخلقوا لهم ذاكرة في هذه الأرض من العدم، ونحن العرب في الطرف الآخر فقدنا ونفقد باستمرار ذاكرتنا وأرضنا بمخطط وضع لنا سلفًا".

هكذا تحدث الأديب الكبير جمال الغيطاني- الذي نحتفل هذه الأيام بالذكرى الثالثة لرحيله- مجيبًا عن سؤالي: اليوم تقول "لا" لمن؟ وذلك في نهاية حوار أجريته معه عام 2008، ونُشر بجريدة المدينة السعودية.

وفي حقيقة الأمر، فإن حياة الأستاذ جمال الغيطاني ومنجزه الأدبي والثقافي يجسدان نموذجًا رائعًا للإنسان والأديب والمثقف العصامي الذي اجتهد لتكوين نفسه وامتلاك أدواته عبر حياة طويلة وعميقة لم يعرف فيها رفاهية التأمل والمراقبة الهادئة للواقع من شرفات البرج العاجي؛ لأنه عاش دومًا في قلب الأحداث والمشكلات التي مر بها الوطن، وقريبًا من فضاء الشارع بصخبه وحراكه المستمر وتنوع نماذجه البشرية.

ولأنه مثقف نقدي صاحب موقف ورأي شجاع، لم يتوقف جمال الغيطاني عبر حياته عن خوض المعارك الثقافية والوطنية دفاعًا عن المكان وخصوصيته، واللغة والوجدان والذاكرة والهوية والدولة الوطنية.

كان أبرز تلك المعارك معركته مع وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني في تسعينيات القرن الماضي، لرفضه سياسات الوزير التي أدت إلى تراجع الحياة الثقافية، واقتصارها على فعاليات شكلية فارغة تهدف لإحداث صخب ثقافي يلفت الانظار، ولكن بدون أدنى مردود إيجابي على وعي وثقافة المصريين. كما نقد الغيطاني محاولة الوزير لتدجين المثقفين، وإدخالهم في حظيرة وزارة الثقافة، وسلبهم دورهم النقدي التنويري.

وكذلك معركته في بداية الألفية الحالية مع ما سمّاه رأس المال الخليجي المتوحش الذي يستهدف الفن والثقافة والمصرية. وفي تلك المعركة هاجم بشدة الأمير السعودي الوليد بن طلال وطبيعة النشاط الذي يمارسه في مصر، وقد وجه هجومه إلى نقطتين رئيسيتين في نشاط الوليد بن طلال:

الأمر الأول، يتعلق بالأبراج السكانية والتجارية التي أقامها الوليد بن طلال في القاهرة، والتي تتنافى مع العمارة العربية المميزة، وما أثير في حينه عن رغبة الأمير في ردم قطاع من النيل حتى يكون جراجًا لأحد فنادقه.

الأمر الثاني، يتعلق بطبيعة الدور السلبي الذي يمارسه الأمير في الفن المصري؛ مثل شراء حقوق استغلال بعض المطربين المصريين وتسقيعهم، لصالح بروز مطربين عرب وخليجيين آخرين.

وكذلك معركته مع التيار الديني الوهابي الذي يستهدف الشخصية والخصوصية والهوية المصرية، وقد احتدمت تلك المعركة بعد تصريحه في ندوة له بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2008 بأن الوهابية أخطر على مصر من إسرائيل. وأن الوهابية- وإن كانت حركة دينية واجتماعية إصلاحية- كان لها مبررات وجود في الجزيرة العربية، إلا أنها لا تناسب مصر بلد الأزهر، ولا تناسب المجتمع المصري القائم منذ القدم علي التسامح والتعددية وقبول الآخر.

وبعيدًا عن هذه المعارك الثقافية، فقد كان للأستاذ جمال الغيطاني آراء أصيلة ومتميزة في العديد من القضايا الفكرية التي تعرض لها العقل العربي في القرن العشرين، وأثارت الخلاف بين المفكرين؛ مثل موقفه من التراث والخصوصية والهوية الحضارية، ودعوته إلى ما سماه "حداثة مقلوبة" تبدأ من استيعاب ونقد التراث؛ لأن أي مشروع حداثي لا يستند إلى ميراثه الحضاري هو مشروع محكوم عليه بالفشل، ولا يحفظ لنا خصوصيتنا الحضارية.

ومثل قوله إن هذا التراث هو مجموع دوائر؛ هناك دائرة تحت جلدي، هي التراث العربي، وهناك دائرة تمس سطح جلدي الخارجي، هي التراث الإنساني ككل. مع ملاحظة أن التراث العربي عنده لا يعني التراث الإسلامي فحسب، بل التراث الفرعوني والبابلي والأشوري والعبري الذي انصهر في قلب التراث العربي.

وهذا الموقف الأصيل من التراث تأسس عند جمال الغيطاني على رغبة عميقة في الحفاظ على المكونات والعناصر الثقافية الأصيلة التي لازمتنا، فميزتنا على مدار تاريخنا، والتي صنعت بدورها هويتنا الثقافية ورسالتنا الحضارية.

ولعله في ذلك الموقف كان مستوعبًا لوجهة نظر الأديب والفيلسوف الروسي "ألكسندر سولجستين" التي تقول: "إذا أردت أن تبيد شعبًا، فلا بد أولًا أن تقطعه عن ماضيه"؛ ولهذا فقد نصب جمال الغيطاني نفسه بإخلاص شديد مدافعًا عن المكان والمكانة، واللغة والثقافة والهوية، والذاكرة الوطنية والقومية، بوصفها خطوطَ دفاعٍ أمامية عن أرضنا ووجودنا.

إعلان