إعلان

لا أحد يضحك في القاهرة

لا أحد يضحك في القاهرة

ياسر الزيات
09:00 م الأربعاء 31 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

كانت عودتي إلى القاهرة تعني لي الحصول على جرعة مكثفة من البهجة، تبدأ من لحظة فتح باب الطائرة في بداية زيارتي، وتنتهي في لحظة غلق الباب في نهايتها، لكن الأمر اختلف في السنوات الأخيرة. وأنت تأخذ انطباعك الأول عن أي بلد تزوره من ملامح مضيفي ومضيفات الطائرة التي تستقلها إلى هذا البلد. تستطيع أن تقرأ على وجوههم ووجوههن حجم الراحة أو الضغوط الاجتماعية في المكان الذي تقصده. وأنا أفضل السفر على طائرات مصر للطيران، كلما توفرت لي الفرصة لذلك، وأعتبرها بالفعل واحدة من أفضل شركات الطيران، لولا أسعارها التي تصبح عالية بشكل مبالغ فيه أحياناً. بدأ الأمر معي بدافع كونها الشركة الوطنية، لكنه تطور عندما أصبحت أسافر مرة أو مرتين كل شهر تقريبا إلى بلدان مختلفة لأداء عمل أو قضاء عطلة قصيرة، فأصبحت لدي فرصة المقارنة بين شركات طيران متعددة ومختلفة.

كان دخولي من باب طائرة الشركة الوطنية يعني أنني دخلت إلى أرض البهجة، وأنني سأحظى بابتسامة مصرية خالصة نابعة من خفة دم حقيقية وذكية، وكانت الرحلة تعني الكثير من هذا المزيج. لا أنسى أبداً عندما كنت أجلس في الصف الأخير في رحلة عودة لي من ليبيا، ويجلس ورائي مضيفان في مقعديهما، جعلني أحدهما "أفطس" من الضحك وهو يسخر من المطبات الهوائية، ويدعو للطيار: "استرها معانا يا أبوحسن، الله يسترها معاك". كنت أعاني وقتها من فوبيا الطيران، لكن هذا المضيف خفيف الدم جعلني أنسى حالة الخوف هذه، وأغرق في نوبة ضحك، وأنا أتخيل أن الطيار يحاول أن يتفادى المطبات استجابة لدعوات زميله المضيف.

في المرات الأخيرة التي زرت فيها القاهرة، كان الأمر مختلفاً: ابتسامات المضيفين والمضيفات على باب الطائرة فيها الكثير من التكلف، وعيونهم زائغة منطفئة، كأنها عيون زجاجية بلا حياة. وأثناء الرحلة، يتعامل المضيفون والمضيفات باحترافية، لكنها تفتقد إلى الروح، ولا تنجح في إخفاء توتر مكتوم، أو ضغط ما يحاول صاحبه عبثاً أن يخفيه، لكنه يظهر في لغة جسده، وفي أسلوب اتصاله مع الآخرين. ولا تخص هذه الانطباعات العاملين في مصر للطيران، لأنني أنظر إليهم بوصفهم صورة تمثل المجتمع المصري بكل تفاعلاته. على الأرض، مثلاً، لا ينظر ضابط الجوازات في عيني، ويندهش عندما أبادره بالتحية، فيردها أحيانا، أو يطنش في أحيان أخرى، لكنني أطنش طناشه، وأظل مبتسماً. هو أيضاً متوتر ومضغوط لأسباب تخصه، ولأسباب عامة ربما لا يدري بها. لا أريد أن أشير طبعاً إلى أن ضباط الجوازات في مطار القاهرة لا يبتسمون مطلقاً، ولا يستخدمون لغة ودٍّ، ويتعاملون بشكل آلي مع المسافرين، على عكس ما يحدث في مطارات كثيرة حول العالم، ناهيك عن أنهم يعاملونك بنوع من الفوقية الشديدة أحياناً، خاصة عندما يكون جواز سفرك مصرياً، ولكن "إحنا مالنا؟ خلينا في موضوعنا".

وأنت تمشي في مطار القاهرة في السنوات الأخيرة، تلاحظ الكثير من الكآبة والانكسار على وجوه العاملين بمختلف تخصصاتهم، وقد تستمع إلى شكاواهم، بعضهم إلى البعض، من سوء الأحوال، أو لنميمتهم على زملاء لهم، بما يعطيك صورة عن صراع "التحايل على المعايش" الذي يعيشونه، قبل أن تخرج للشارع فتستمع إلى شكاوى سائق التاكسي من كل شيء.

لا أحد يضحك في القاهرة: لا المضيفة، ولا ضابط الجوازات، ولا عمال المطار، ولا سائق التاكسي. ما الذي حدث في السنوات الأخيرة؟ ومن الذي سرق ضحكة المصريين؟

إعلان