إعلان

خمسون عاما على مسرحية التنحي

خمسون عاما على مسرحية التنحي

د. جمال عبد الجواد
08:42 م الجمعة 09 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

د. جمال عبد الجواد

هناك عدد من الأساطير الشائعة في السياسة المصرية، ومنها بينها أسطورة تنحي جمال عبد الناصر عن الرئاسة يوم التاسع من يونيو عقب الهزيمة في حرب 1967. الأداء السياسي والعسكري المصري في هذه الحرب هو أكبر واقعة "تقصير وظيفي" في تاريخ مصر الحديث. ومع أن سائق القطار يحاكم عندما يخرج قطاره عن القضبان، وعامل المزلقان يحاكم بتهمة التقصير عندما يتسبب في حادث تصادم، فقد نجا عبد الناصر من المحاسبة بسبب حيلة التنحي التي كتب خطابها محمد حسنين هيكل. 

قال عبد الناصر في خطاب التنحي إنه يتحمل المسئولية ويتنحى عن الحكم، ولكنه لم يصل إلى هذه النقطة من خطابه إلا بعد أن ضلل الناس بأكبر عدد من الأكاذيب يمكن له أن يجتمع في خطاب واحد. لم يعتذر عبد الناصر عن النشر العشوائي لجيشنا في سيناء، ولا عن الانسحاب الفوضوي منها، فقواتنا المسلحة تحركت إلى الحدود "بكفاءة شهد بها العدو قبل الصديق"، وعندما "اضطرت قواتنا المسلحة في سيناء إلى إخلاء خط الدفاع الأول" فإنها "حاربت معارك رهيبة بالدبابات والطائرات على خط الدفاع الثاني".

لم يقل عبد الناصر أنه بعد أن أرسل الجيش المصري إلى سيناء فإنه قام باتخاذ مجموعة من القرارات التي عمقت الأزمة وجعلت المواجهة العسكرية حتمية، ولكنه قدم الأمر كما لو كانت هذه القرارات حدثت من تلقاء نفسها، ففي أعقاب تحرك القوات المسلحة "تداعت من أثر ذلك خطوات عديدة؛ منها انسحاب قوات الطوارئ الدولية، ثم عودة قواتنا إلى مواقع شرم الشيخ المتحكمة في مضايق تيران، والتي كان العدو الإسرائيلي يستعملها كأثر من آثار العدوان الثلاثي الذى وقع علينا سنة ١٩٥٦". أما لماذا قررنا غلق مضيق تيران، فلأن "مرور علم العدو أمام قواتنا أمراً لا يحتمل". 

لقد خسرنا المعركة، ليس بسبب أخطاء القيادات السياسية والعسكرية، ولكن لأن القوى الاستعمارية المتآمرة كانت تحارب إلى جانب إسرائيل. هذه هي الكذبة الكبرى التي استطاع بها عبد الناصر استدرار عطف الجماهير البسيطة على قائدهم المحبوب الذي تكالبت عليه قوى الشر. 

تحدث عبد الناصر عن ضربة العدو التي "جاءت بأكبر مما يملكه (العدو)، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوى أخرى وراء العدو"، وقال إن "العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له"، "العدو غطى في وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية في الجمهورية العربية المتحدة، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية، لحماية أجوائه من أي رد فعل من جانبنا؛ كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها".

بعد هذا التمهيد السيكولوجي، ألقى عبد الناصر الكذبة الكبرى، فكشف عن الدول التي شاركت في الحرب إلى جانب العدو، فتحدث ناصر عن "حاملات طائرات أمريكية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربي. كما أن طائرات بريطانية أغارت في وضح النهار على بعض المواقع في الجبهة السورية وفى الجبهة المصرية، إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا". 

وأخيرا بعد كل هذا القصف الثقيل من الأكاذيب على نفوس الناس المتعبة، قال ناصر إنه قرر التنحي، وطبعا خرج الناس للشوارع يطالبونه بالبقاء، وكانت هذه هي بالضبط الخاتمة التي اختارها مؤلف مسرحية التنحي بعد أن حول الجمهور إلى ممثلين، فظن هؤلاء أنهم مشاركون وشركاء يصنعون التاريخ، مع أنهم كانوا مجرد كومبارس يعملون بلا أجر في مسرحية "إنقاذ البطل"، أو مسرحية "التنحي" التي يمر عليها اليوم خمسين عاما بالتمام والكمال.

إعلان