إعلان

يا عم صلاح.. كم أنت جميل!!

يا عم صلاح.. كم أنت جميل!!

خيري حسن
09:00 م السبت 30 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

رن جرس هاتفي وأنا أسير في شارع طلعت حرب في طريقي للمقهى. على شاشته اسم الأستاذ صلاح عيسى (1939ـ 2017). قلت: ألو. رد: أنت فين يا جميل؟ قلت: في طريقي للمقهى. قال وهو يضحك: يبدو أن نصف حياتك ستقضيه على المقهى! ثم واصل كلامه قبل أن أرد قائلاً: عموماً سمعت أنك فُصلت من صحيفتك .. هل هذا صحيح؟ قلت: نعم هذا حدث بالفعل. وأكملت ردى قائلاً: وأظن يا أستاذ إن هذا سبب كاف للجلوس على المقاهي، أليس كذلك؟ رد وهو يضحك والسعال الخفيف مصاحب لضحكته بسبب حبه الشديد للتدخين قائلاً: عموماً انا منتظرك غداً في مكتبي، في الساعة الواحدة ظهراً.. لا تتأخر يا جميل. قلت: حاضر يا أستاذ.

ثم سكت قليلاً وأنا انتظر صوته عبر الهاتف، وقبل أن يودعني ويغلق الخط قال: عموماً أغلب الصحفيين الموهوبين في مصر وربما في الوطن العربي، يتم فصلهم من صحفهم، خلال مشوارهم العملي، وهذه ظاهرة تستحق البحث والتأمل. وأنا من قبلك فُصلت واسمي سبق اسمك في كشوف الصحفيين الذين تم فصلهم في تاريخ الصحافة. ثم أنهى المكالمة قائلاً: يبدو أن هذا قدرنا مع الصحافة في عالمنا العربي وفى مصر على وجه التحديد.

كلماته أسعدتني، شدت من أزرى. جاءت مثل المطهّر الذي مر على جرح بداخلي ينزف ألماً وحزناً وغضباً. وجلست على المقهى وأنا في قمة السعادة. نعم أنا صحفي مفصول- وقتها- لكن صلاح عيسى بنفسه القامة والقيمة الصحفية والأدبية والإبداعية، يرى أنني موهوب وهذا يكفيني. وبخلاف ذلك، يتصل بي ليشد من عزمي، في الوقت الذي هاتفت فيه آخرين، فلم يردوا وتركوا لي رسالة تقول: "هذا الرقم ربما يكون مغلقاً أو خارج نطاق الخدمة".

في اليوم التالي ذهبت إليه في الموعد في مكتبه في 9 شارع حسن صبري بحي الزمالك حيث مقر صحيفة القاهرة التي كان يترأس تحريرها. بعد دقائق كنت أجلس أمامه. طلب لنفسه (نسكافيه بلاك) الذي كنت لا أراه يشرب غيره، وطلبت أنا (شاي). أشعل سيجارته الأولى وبدأ يستمع لقصة فصلى من الصحيفة وهو يضع يده على خده الأيسر ومن خلفه تأتيني عبر النافذة أشعة شمس شهر مارس التي نودع بها موسم شتاء 2011، ونستقبل بها أول صيف لـ25 يناير الثوري المحمل بالأحلام والأوهام معاً، وتلك هي طبائع الثورات في كل مكان وفى أي زمان. وفى فضاء الحجرة يتطاير وبين مئات الكتب التي حولنا، دخان سيجارته وما بين كل جملة وأخرى أثناء كلامي أسمعه يتمتم وهو يهز رأسه: (آه.. آه.. أكمل يا جميل) وأنا أواصل كلامي. لا يقاطعني حتى انتهيت.

بعدها اعتدل وعاد بظهره إلى الخلف على مقعده، قليلاً ثم قال: وأنا في مثل سنك أو أصغر منك، صحوت من نومى ذات صباح وارتديت ملابسي استعداداً للتوجه إلى صحيفة الجمهورية التي كنت أعمل بها وقتها، أطفأت السيجارة التي كانت في يدي، وارتشفت آخر ما تبقى أمامي من فنجان قهوتي، وأغلقت المذياع الذي كنت أستمع من خلاله لنشرة الأخبار الصباحية، وأثناء ذلك رن التليفون الأرضي، رفعت السماعة فجاءني صوت من الجانب الآخر، يقول لي يا أستاذ. قلت: نعم. قال وهو يتأسف لي معتذراً: لا تأتى للصحيفة اليوم.. وقبل أن أسأل لماذا، أكمل هو قائلاً: حضرتك اتفصلت، ثم أغلق الخط. فضحكت وأنا أضع السماعة مكانها وخلعت ملابسي، وارتديت بيجامتي وعدت إلى سريري من أجل مواصلة النوم، وكأن شيئا لم يحدث، وعندما صحوت عدت إلى مكتبي في البيت وجلست عليه وبدأت أخطط لعمل كتاب جديد لي.

قلت له: هكذا ببساطة يا أستاذ؟! رد بثقة وقوة وهو يرتشف النسكافية الذى جاءت به قبل قليل مديرة مكتبه، وقال: طبعاّ.. أفضل شيء في الحياة هو التحدي، لذلك لا تجعل أي شيء يعطلك عن تحقيق ذاتك، ومواصلة قدرتك على النجاح، وعليك أن تتحدى التحدي ذاته، إذا تطلب الموقف منك ذلك، لا تجعلهم يهزمونك أو يقتلونك معنوياً ومهنياً، ولا تجعل اليأس يقودك للفشل. ثم سكت قليلاً وكأنه يتذكر شيئاً ما طرأ على ذهنه ثم قال: يومها قلت بيني وبين نفسى إن كانوا حرموني من الكتابة الصحفية بسبب مواقفي السياسية- حيث كان ينتمى ويؤمن بفكر اليسار الذى رفض بعض سياسات عبدالناصر واعتقل في عصره عام 1966 وكل سياسات السادات واعتقل أيضاً في عهده عدة مرات- فإنهم لن يستطيعوا حرماني من الكتابة بشكل عام، وقد فشلوا فيما ذهبوا إليه، ونجحت أنا فيما ذهبت إليه.

هذا الدرس الذي جلست أمامه أسمعه علمني الكثير وأعطاني القوة والصلابة كي أواجه الموقف الذي كنت فيه وقتها. وكنت أحكيه لكل إنسان يواجه أزمة في حياته العملية. أما إبداعه على الورق فيما قدمه للمكتبة العربية من تشريح للحالة السياسية والاجتماعية في مصر منذ ثورة أحمد عرابي، بأسلوب سهل وسلس وساخر وعميق في نفس الوقت، فهذا يعد نهرًا من الإبداع، لن يجف بموته، وستظل الأجيال الحالية والقادمة تتعلم منه، وستبقى كتبه التي حملت عناوين (الثورة العربية. وحكايات من دفتر الوطن. والبرنسيسة والأفندي. والفاجومي شاعر تكدير الرأي العام. ودستور في صندوق القمامة. ومثقفون وعسكر. ورجال ريا وسكينة. وشخصيات لها العجب) وغيرها من الأعمال التي تنوعت بين القصة القصيرة والتأريخ والسرد والفكر والحكي الفلسفي غير المسبوق في الصحافة المصرية، تشهد له بالتميز والتفرد والموهبة.

طالت جلستي معه هذه المرة، وتحدثنا في ملفات عديدة، ومن بين ما قلت له أن جلسات النميمة في الوسط الصحفي تطرح اسمه لرئاسة تحرير صحيفة الوفد. ضحك وهو يشعل سيجارة جديدة، وقال: مع حبي وتقديري للوفد وتاريخه، ونضاله الحقيقي من أجل الحرية وللصحيفة التي فتحت لي ذات يوم صفحاتها للكتابة فيها، إلا أنني لن أتولى رئاسة تحرير أي صحيفة يومية. قلت لماذا يا أستاذ؟ قال: لأنني مشغول بإنجاز عدة مشاريع لكتب جديدة، أتمنى أن أنتهى منها قبل أن ينتهى العمر. في هذه اللحظة دخلت مديرة مكتبه مرة أخرى تخبره أن بالخارج ضيفاً عربياً جاء ليقدم له مجموعة من أعماله الأدبية التي يرجو نشرها على صفحات صحيفة القاهرة. قال لها: أهلا وسهلاً.. بعد ثوان خرجت هي ليستعد الضيف للدخول وأستعد أنا للخروج. ودعته بتحية تليق بأستاذ علم- ولايزال- بقلمه وفكره وإبداعه أجيالاً كثيرة. فرد التحية بابتسامة ونظرة تفاؤل وهو يقول:(ابقى خلينى أشوفك.. يا جميل). وقتها بادلته الابتسامة وخرجت أترجل وسط شوارع حي الزمالك الراقي الهادئ، في طريقي لوسط البلد وأنا أقول بيني وبين نفسي (الجميل.. هو أنت يا عم صلاح).

وعندما سمعت نبأ رحيله قبل أيام.. تذكرت هذا اللقاء وهذه الجملة، في ذلك اليوم البعيد بعض الشيء، ووجدت نفسي أجرى عليها تعديلاً قد يكون بسيطاً، لكنه ـ من وجهة نظري ـ عميقاً، وجدتني أقول وأنا حزين لرحيله: يا عم صلاح.. من كان مثلك في الإبداع وجماله.. لا يموت.

إعلان