إعلان

قصة الأميرة التي أحدثت ثورة في مجال الطب العسكري

09:54 ص الجمعة 26 أبريل 2019

أرشيفية

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

لندن (بي بي سي)

كانت فيرا غيدرويتس تسابق الزمن للهرب قبل أن يحتدم القتال مرة أخرى. فعندما ساد هدوء نسبي جبهة القتال، بعد أن ظل صوت طلقات الرصاص وقذائف المدفعية يدوي طوال الليل على مقربة منها، تحرك القطار بحذر في جنح الظلام، وأطفئت جميع الأنوار حتى لا ترصد القوات المعادية هذا المستشفى الميداني المتنقل. لكن بمجرد أن تحرك المستشفى، تعرض لبوابل من القنابل.

لم يكن يشغل بال غيدرويتس حينها سوى المرضى على متن القطار، البالغ عددهم نحو 900 جريح، وكان الكثيرون منهم يرقدون على أسرّة مثبتة بالجداران ويئنون من الألم، وبعضهم أصيب بجروح مروعة. ولم تضع غيدرويتس لحظة واحدة، إذ سارعت بإجراء جراحات بمساعدة فريقها خشية تلوث الجروح المفتوحة، وقدمت كل الإسعافات الممكنة للمرضى حتى ابتعد القطار عن جبهة القتال.

كانت هذه الحرب التي انتهت بهزيمة القوات الروسية عام 1905، نقطة تحول في حياة فيرا إيغناتيفنا غيدرويتس، سليلة عائلة ملكية ليتوانية، وجرّاحة موهوبة، وصفت بأنها غريبة الأطوار، وواسعة الاطلاع في مختلف فروع المعرفة.

وكانت الأميرة غيدرويتس- كما كان يناديها البعض- شخصية استثنائية، رغم أن الكثيرين اليوم في الغرب لا يعرفون عنها شيئا. إذ يرى البعض أن إسهامات غيدرويتس الرائدة في الطب العسكري الميداني، لو كانت وظفت توظيفها صحيحا في الحرب العالمية الأولى، لكانت ساعدت في إنقاذ حياة الألاف.

وتقول ميلاني ستابلتون، من جامعة كالغاري: "عندما سمعت بقصة غيدرويتس للمرة الأولى، تساءلت لماذا لم تحول قصتها إلى فيلم سينمائي؟"

لكن من هي فيرا غيدرويتس ولماذا طواها النسيان؟

لا يتوافر الكثير من المعلومات عن حياة غيدرويتس باللغة الإنجليزية، حتى إن تاريخ ميلادها كان محل خلاف. لكنها ولدت على الأرجح في عام 1870 في مدينة كييف، وتنحدر من عائلة ثرية وأتمت دراستها في مدينة سانت بطرسبرغ.

ولما بلغت 16 عاما، اعتقلت على خلفية مشاركتها في الأنشطة الثورية التي نظمتها إحدى الفصائل اليسارية. وبعد خروجها من السجن هربت إلى مدينة لوزان في سويسرا، حيث درست الطب. وكانت غيدرويتس واحدة من بضعة آلاف من النساء اللائي درسن الطب في سويسرا، التي كانت ترحب بدخول النساء مجال الطب، في الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين.

وفي عام 1901، عادت إلى روسيا، حيث اكملت دراستها الجامعية وحصلت على لقب طبيبة. وعُينت جراحة في مصنع أسمنت غرب روسيا.

وقد أحدثت غيدرويتس، بحسب مقالة باللغة الروسية، تغيرات جذرية في هذا المصنع. إذ خططت لإقامة مستشفى متكامل داخل المصنع، وسرعان ما أحضرت معدات للعلاج الطبيعي وجهاز أشعة سينية، الذي كان أحدث ما توصل إليه العلماء في هذا المجال. واستقبلت المستشفى في السنة الأولى 103 مرضى، لم يمت منهم إلا إثنان.

وكان العمال في المصنع يؤدون مهاما شاقة، مثل رفع الأحمال الثقيلة، ونفخ الزجاج. وأشارت غيدرويتس في تقاريرها إلى أن هذا العمل يضعف عضلات البطن، ولهذا أجرت عمليات الفتق للكثير من المرضى.

وبعد عامين اندلعت الحرب بين روسيا واليابان، وتطوعت غيدرويتس في صفوف الصليب الأحمر. وكانت هذه الحرب شديدة الضراوة، حتى إنها كثيرا ما كانت توصف بالصورة المصغرة من الحرب العالمية الأولى التي اندلعت بعدها بعشر سنوات. وحقق الفريقان ما وُصف "بالانتصارات"، التي أوقعت ضحايا بالآلاف من كلا الجانبين. ومنيت روسيا بهزيمة غير متوقعة.

ولا يوجد إلا القليل من المصادر باللغة الإنجليزية التي تصف أنشطة غيدرويتس أثناء الحرب. لكن الطبيب جون بينيت كتب نبذة مترجمة من تقريريها عن الصراع، حصلت بي بي سي على نسخة منه.

في 26 سبتمبر، أقامت غيدرويتس مستشفى ميداني في قرية صغيرة بالقرب من مدينة شنيانغ الصينية. ولم يقتصر المستشفى على عربات القطار، بل امتد ليشمل الخيام المجاورة وأكواخ الريفيين التي تحولت إلى غرف عمليات.

وفي الشهر الأول عالجت غيدرويتس جروحا مروعة، أغلبها يتضمن طلقات وشظايا في الأطراف والصدر والبطن. وكتبت غيدرويتس عن حالة مريض أصابته شظية في رأسه، وأفقدته القدرة على التحكم في الجانب الأيسر من جسمه. واستطاعت غيدرويتس أن تشق فتحة في الرأس واستخرجت ثلاث شظايا كبيرة وأخرى صغيرة. وتأكدت بعد العلمية أن المريض أصبح قادرا على التحكم في يده اليسرى.

وكتبت غيدرويتس ملاحظات وافية عن الجروح التي عالجتها وكيفية الاستدلال منها على الأسلحة التي سببتها.

وعندما حل الشتاء، عانى المرضى من برودة الطقس في الخيام وفي طريق عودتهم من جبهة القتال، وبعضهم أصيب بلسعة الصقيع. وفي شهر يناير/كانون الثاني، زاد عدد عربات القطار التي استوعبت الكثير من المرضى، ووفرت لهم الحماية من البرد القارس في الخارج.

وفي هذا الوقت، خسر الجيش الروسي الكثير من الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته في الإقليم، ودبر اليابانيون هجوما محكما من خمس جهات أثناء معركة موكدن. وصدرت أوامر في فبراير لغيدرويتس وفريقها في القطار بالانسحاب، وعندها واجهت المخاطر والتحديات أثناء هروبها ليلا حين أمطرها اليابانيون بالقنابل.

ووصفت غيدرويتس في تقريرها مدى صعوبة التعامل مع جروح البطن تحديدا. ويقول الجراح المتقاعد والمؤرخ مايكل كرامبلين، إن الجراحين كانوا يفضلون عدم التدخل لعلاج جروح البطن، وكانوا يكتفون بمراقبة المرضى على أمل أن تتحسن حالتهم، وكثيرا ما كان المرضى يلاقون حتفهم متأثرين بجراح البطن.

ويردف قائلا: "لكنك لن تتفهم وجهة نظر الجراحين آنذاك إلا إذا جربت أن تعاني نقصا في أكياس نقل الدم والمحاليل الوريدية والمضادات الحيوية".

ويقول كرامبلين مفسرا إن عضلات جدار البطن ضيقة، ويجب اعطاء المريض مخدر لإرخاء العضلات أثناء العمليات الجراحية. ورغم أنه من الممكن إزالة الدم والغائط الذي قد يتسرب من الأمعاء، إلا أن المريض سيظل معرضا للإصابة بعدوى بكتيرية. وتوجد الكثير من الأوعية الدموية الكبيرة التي تمد الأمعاء بالدم، وقد يعرّض قطعها عن طريق الخطأ حياة المريض للخطر.

هذا بالإضافة إلى أن التدخل الجراحي في الأمعاء قد لا يجدي نفعا. ويقول كرامبلين: "قد تتوقف الأمعاء عن الحركة في أعقاب جراحات البطن، وهذا قد يؤدي إلى انتفاخ البطن والقيء والإصابة بالجفاف".

لكن كل هذه المخاطر لم تمنع غيدرويتس من التدخل جراحيا لعلاج جروح البطن. وأجرت في بعض الحالات عمليات فتح البطن الاستقصائي لإيقاف النزيف. ويقول بينيت إن غيدرويتس وصفت مزايا هذه العمليات الجراحية في تقاريرها التي كتبتها في السنوات اللاحقة، مع التركيز على أهمية فحص البطن المصابة بجروح بأقصى سرعة ممكنة.

وفطنت غيدرويتس أيضا إلى أهمية وصول المستشفى الميداني إلى أقرب نقطة ممكنة من خط الجبهة وكذلك أهمية فحص بعض الجروح في أطر زمنية محددة، قد لا تتعدى، على سبيل المثال، ثلاث ساعات في حالة جروح البطن. وكتبت أيضا ملاحظات عن الأنواع المثلى من الضمادات لكل مرحلة من مراحل العلاج.

ويقول ستيفن هايز، عميد كلية الطب بجامعة أبردين، إن كل هذه الملاحظات لو كانت نالت حظا من العناية والاهتمام، لكانت ساهمت في إنقاذ حياة الكثير من المصابين في الحرب العالمية الأولى. فقد نُشرت هذه التقارير قبل عشر سنوات من اندلاع الحرب.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، عاشت غيدرويتس حياة هادئة، وعادت إلى منصبها في المصنع، حيث عملت على توسيع نطاق المستشفى الذي تديره. وبعد سنوات قليلة، أصبحت جرّاحة في مستشفى قصر تسارسكوي سيلو، وعلّمت الإمبراطورة أليكساندرا وابنتيها تاتيانا وأوليغا المبادئ الأساسية للجراحة.

غير أن غيدرويتس، رغم تعاونها مع البلاط الملكي، لم تداهن يوما العائلة الملكية. وأشار أحد التقارير إلى أنها دفعت ذات مرة غريغوري راسبوتين، الذي كان موضع ثقة الإمبراطورة، عندما رفض الابتعاد عن طريقها. وفي عام 1917، اندلعت ثورة عارمة وضعت مصير العائلة الملكية الروسية على المحك. وعادت غيدرويتس إلى المشافي الميدانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وأصيبت بجروح، وبعدها انتقلت إلى مدينة كييف، حيث شرعت في تدريس جراحة الأطفال، وعينت أستاذة جامعية.

لكن الطب لم يكن شغفها الوحيد، إذ أصبحت غيدرويتس شاعرة، ونشرت دواوين شعر عديدة. ولاحظ سكان كييف غرابة أطوارها، واشتهرت بمظهرها الذكوري وصوتها الأجش وعلاقاتها الوثيقة بالإناث، ما جعل الكثيرون يفترضون أنها مثلية.

وفي عام 2007، سلط مقال في إحدى الدوريات الطبية الضوء على إنجازات غيدرويتس التي طواها النسيان. وعزى الكاتب ذلك إلى الظروف التي أحاطت بظهورها وتعمد المجتمع الاهتمام ببعض الناس وتجاهل أخرين.

لاقت فيرا غيدرويتس حتفها في عام 1932 ودفنت في مدينة كييف. وكان يتعهد قبرها أحد رؤساء الأساقفة الذي عالجته بنفسها عندما كان شابا، وأوصى بأن يدفن بجانبها بعد وفاته.

من المؤسف أن قصة حياة غيدروتس الحافلة بالأحداث والإنجازات لا يعرفها الكثيرون. وربما كان من المفترض، كما قالت ستابلتون، أن يخلد انجازاتها فيلم سينمائي.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: