إعلان

شمَّاعة التجديد

الدكتور محمود الهواري

شمَّاعة التجديد

08:31 م السبت 16 فبراير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

بقلم: د. محمود الهواري
قد يوهم ظاهر العنوان أنِّي ضد التجديد، أو أنِّي ممن يتخوفون منه، ولكنّي على العكس من ذلك أومن أن التجديد فريضة ثابتة مستقرة في دين الله، ودليل فرضيتها النقل والعقل، وقد قدمت في مقال سابق بمجموعة من أدلة الوحي الشريف قرآنا وسنة ما يؤكد فرضية التجديد، وأهميته.

ومن هذه الأدلة ما قاله الله تعالى في قرآنه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر:9، ولا يعني هذا الحفظ أن نجمد على حال لا نفارقه إلى غيره، وإنما هو حفظ يستجيب للوقائع الإنسانيَّة المتغيِّرة.
ومن السنة قول النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».

وأومن كذلك أن التجديد ضرورة حضارية لمقابلة الحراك الكوني في أبعاده الأربعة: المكان والزمان والأحوال والإنسان؛ فنحن إذا سلَّمْنَا أنَّ رسالةَ الإسلامِ رسالةٌ عامّةٌ للنَّاسِ جميعًا، وأنَّها باقيةٌ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، فلا بد من مقابلة الحادثات غير المحدودة والمتغيرة على مدار متسارع متقارب بما عندنا من نصوص محدودة، فلا مفرَّ إذًا من إقرارِ فريضةِ التَّجديدِ الَّذي يتحتَّمُ لمعالجةِ ما يستجدُّ في حياة النَّاسِ.

وأومن غاية الإيمان أن التجديد الديني ليس ترفا فكريا عارضا، بل هو ضرورة لها مقاصدها العالية، التي تحفظ الأمن والاستقرار في المجتمعات والأوطان، وتعصم الأنفس من أن تستباح، وتصون الحرمات من أن تنتهك، وتحمي الدماء من أن تسفك، وتواجه الخطاب الطائفي، والفوضى الفكرية، وهدم الثوابت الدينية والوطنية، التي يسعى لها البعض، والتي يترتب عليها من المفاسد الكبرى، والأضرار العظمى ما يشهد لها الواقع.

لكنّي أومن أيضا بمبادئ معينة ترتبط بالتجديد، ويرتبط بها التجديد، لا تنفك عنه، ولا ينفك عنها، أهمها:

أن التجديد لا بد أن ينطلق من أرض ثابتة؛ إذْ لا يُتصور أن يكون التجديد بإنكار ما ثبت واستقر من أحكام لا تقبل الأخذ والرد، فالمساس بهذه الثوابت الكبرى يحوِّل التجديد إلى تبديد، ويخلق فوضى عارمة لا منتهى لها، ويفتح الباب لتأويلات تجعل الدين الواحد أديانا متعددة، ويخلق صراعات فكرية لا متناهية، وغير مأمونة العواقب، وهذا يعني أن يرتبط التجديد بالأصول والثوابت والمصادر الأصلية من القرآن والسنة والإجماع الثابت والقياس الصحيح ارتباطا وثيقا، لا أن يتحلل منها.

وأن التجديد لا يكون بتجريح أهل العلم، وغمزهم، واتهامهم، وقد علمنا تاريخ العلم كم كان العلماء يتناقشون، وينكر بعضهم على بعض، ويرفض بعضهم آراء بعض، ثم لا يتجاوز هذا الإنكار وهذا النقاش مسائل العلم إلى أشخاص قائليها، وإنما خُيِّل لبعض المعاصرين ممن تخلَّوا عن آداب العلم أن التجديد سبٌّ وشتم واتهام. وإذا كان من مقاصد التجديد أن يُواجه الفكر بالفكر، فليس من الفكر الصحيح أن يُوجدَ اتهام وسب وإقصاء وأحكام مسبقة لا تستند إلا إلى خيالات لا تتجاوز أوهام أصحابها.

صحيح إن مواجهة الإرهاب ضرورة مجتمعية، بل عالمية؛ إذ صار الإرهاب عابرا للقارات، لكن هل يُحارب الإرهاب بإرهاب جديد؟ فهذا الإرهاب التقليدي الذي نجحت وسائل الإعلام في إلصاقه بنا زورا وبهتانا، لا يختلف عن الإرهاب الجديد الذي يسوق لفكرة: "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، "وإن لم تسمع لقولي، وترضخ لرأيي فأنت خارج عن نظامي".

نعم، تجديد الخطاب الديني مسؤولية كبرى، ومن واجب العلماء والدعاة والمفكرين أن يجتهدوا في تقديم الخطاب الأمثل الذي يحقق مقاصد الشريعة ومصالح البشرية ويمدهم بقيم النهضة والرقي والازدهار، وهذا ما يسعى إليه الأزهر بكل ما أوتي من قوة وأدوات، من خلال هيئاته، ومن خلال إصداراته التي تناقش الأفكار المغلوطة، ومؤتمراته التي يدعى لها المفكرون من كل مكان، ويشيدون بما تطرحه من فهم صحيح، ومن خلال قوافله التي تجوب العالم تؤكد قيم السلام والتسامح والتعايش، ومن خلال حملاته ومبادراته التي تعالج الأخلاق والسلوكيات، ما يؤكد مشاركة الأزهر لهموم الأمة.

لكن بعض الناس يصر على أن الأزهر لم يجدد، وما ذنب الأزهر إن أغمض بعض الناس عيونهم عن النور؟.

إن التجديد لم يعد خيارا مطروحا يمكن قبوله أو رفضه، بل هو ضرورة يفرضها الدين، ويؤكدها الواقع، فقد تجاوزنا القبول والرفض إلى مناهج المجددين وأدواتهم، فالمشكلة الحقيقية فيمن يتناول التجديد، وأخشى أن يصبح أدعياء التجديد أبواقا تردد دون أن تمتلك بوصلة حقيقية لاتجاه التجديد، أو أن يكون المجددون مسوقين لمنتجات الآخرين، دون تفكير علمي نقدي، ودون رؤية إبداعية تبحث عن التميز والريادة، ودون ميزان سليم ينفتح على العالم وفق مبدأ اختيار الأصلح والأنفع وترك الرديء الضار، أو أن يقصد المنادون بالتجديد الخروج على الثوابت والأصول وما استقر في وجدان الأمة.

ومن عجيب ما نراه فيمن يتغنون بالتجديد ليل نهار من المنسوبين إلى العلم أنهم لا يقدمون مشروعا حقيقيا يرجع على الدنيا بالإعمار، وإنما هي شقشقة لفظية لا تتجاوز الألسنة، وإنما هي خطب طنانة، وألفاظ رنانة، ثم لا ترى أثرا على حد تعبير القائل: نسمع جعجعة ولا نرى طحنا.

وأغلب ظني في هؤلاء الذين ينادون بالتجديد أنهم يفرون من مشكلات الواقع المتنوعة فيعلقونها على مشجب أو شماعة التجديد، ظانين أن التُّراثَ الإسلاميَّ وحدَه سبب لكلِّ الهزائمِ التَّاريخيَّةِ والحضاريَّةِ الَّتي مُنيتْ بها الأمَّةُ، مع أن ما فيه الأمة من هزائمَ اجتماعيَّة واقتصاديَّة لا يُسْألُ عنها الإسلامُ ولا نورُ وَحْيِهِ، وإنَّما يُسْألُ عنها مَنْ اتَّخذَ هذا النُّورَ الإلهيَّ وراءه ظهريًّا، واستبدلَ بعبيرِ الوحيِ بعرًا والثَّرى بالثُّريَّا.

ومن المصارحة أن ندرك أننا استهلكنا قاموسا لفظيا يدور حول التطوير والتثوير والتجديد والتجويد والتحسين، وليس بنافع لأمتنا أن تحمل مؤسساتها شعارات التجديد، دون أن تسري في روح أهلها معانيه، ومضامينه، وتطبيقاته، ودون أن يظهر لكل مؤسسة أثر حقيقي واقعي جديد يساير العصر، ويستجيب لحاجات الناس، ويؤكد هوية الأمة ويعززها، ويسعى في تميزها وتفردها.

لا بد من قدر من المصارحة إن أردنا علاج مشكلاتنا، ولو تصارحنا لقلنا: إن التجديد أمر ملح، لكن في سائر المجالات ذات الصلة بمخاطبة الناس وتشكيل آرائهم وأفكارهم من دين وثقافة واجتماع واقتصاد… وغير ذلك. وعلى كل المؤسسات أن تتعاون في هذا، وإن من الشجاعة أن يباشر كل إنسان مهامه، ويعمل بها، بدلا من المسارعة إلى اتهام الغير تخلصا وتملصا من المسئولية التي تتعلق برقاب الجميع.

إعلان